أنت هنا

قراءة كتاب محاضرات في مناهج البحث العلمي للدراسات الإنسانية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
محاضرات في مناهج البحث العلمي للدراسات الإنسانية

محاضرات في مناهج البحث العلمي للدراسات الإنسانية

كتاب " محاضرات في مناهج البحث العلمي للدراسات الإنسانية " ، تأليف د. نبيهة صالح السامرائي ، والذي صدر عن دار الجنان عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 4

استخدام المعرفة الشائعة استخدام المعرفة الشائعة، أو رؤية الآخرين وهم يستخدمونها، أمر يحدث يوميا. لترى ذلك بنفسك، كل ما عليك فعله هو أن تذكر لصديق بعض المستجدات العلمية عن أحد الموضوعات الشائعة. مثلا: يوجد على بعض الطرق الألمانية السريعة لافتات تطلب خفض السرعة؛ وتظهر الدراسات أن ذلك يؤدي لتدفق أيسر لحركة السير.

وغالبا ما سيكون رد الفعل الأول لصديقك أن يعترض على صحة هذه المعلومات الجديدة، ويدافع عما يعتقد أنه الحقيقة (أن إبطاء السرعة يؤدي إلى إبطاء حركة السير عامة). ونشاهد هنا كيف اعتمد رد الفعل الأولي على المعرفة الشائعة وليس على التمحيص المتأني.

حول المعرفة المتعمقة تبدأ المعرفة المتعمقة أو المنهجية بأن يقرر المرء التحرر من السطوة الآنية الزائدة لعينيه، وأذنيه، وفمه، وأنفه، وجلده؛ بمعنى أن نكف عن الاستجابة العمياء للمعرفة التبسيطية التي تمدنا بها هذه الحواس. ويستطيع المرء عندئد أن يقرر استخدام مَلَكَة الملاحظة لديه بطريقة أكثر منهجية؛ مثلا، بإيلاء انتباه أكثر للتفاصيل العادية، أو بالسعي لاستكشاف أبعاد جديدة للأشياء والظواهر اليومية من خلال تعميق معرفته بتفاصيلها. والمقصود أن نتجاوز ظاهر الأشياء وننفذ عبر غلالة التكرارية والاعتيادية التي تحيطها. وتتطلب المعرفة المنهجية أن نتخذ دروبا غير تلك التي خبرناها وألفناها. ومن خصائص المعرفة المنهجية أنها ليست نهائية؛ فإجاباتها دوما قابلة لإعادة النظر. كما أن تلك الإجابات لا تتأتّى سريعا، وإنما بالتعمق والبحث. وفي رحلة المعرفة المنهجية، الأشياء – وكذا توصيفاتها – في حالة تطور مستمر، وهو ما يناقض الركود الذي تتسم به المعرفة الشائعة. ومن خصائص المعرفة المنهجية أيضا أنها تحتاج دوما لإثبات وسند. ومن ثم فإنها تولد النقاشات (والجدل)، وتثير الأسئلة، وترفض أن تأخذ الفرضيات على علاّتها. إنها تحثنا على أن نعيد النظر الآن فيما كان مقبولا بالأمس؛ وتدفعنا لأن نخطو بذات الثقة في المجالات والنقاشات غير المطروقة كما في تلك التي اعتدناها وعرفناها. فالمعرفة المنهجية سعي دائب للمعرفة لا تقف أمامه المحظورات.

 

المعرفة المنهجية بناء من صنع البشر

بناء لا يكتمل أبدا، فيقبل دوما أن يضاف إليه وأن ينزع منه فعلى النقيض من المعرفة اليومية، والتي نلتقطها كل يوم من محيطنا، تقوم المعرفة المنهجية على المؤسسات المتخصصة، وتقود لقيام المزيد منها. وتحتاج المعرفة المنهجية التزاماً شخصياً، قد يصل لحد تقديم التضحيات. كما أنها تتطلب تعلماً نظاميا تدريجيا، في المدارس والمعاهد ومؤسسات التدريب، كما لابد أن يدعمها البحث. وتلتزم عملية التعلم هنا بمنهاج دراسي يؤكد على أهمية أن يصحب المحتوى التعليمي تمسك بالموضوعية وانصياع للحقائق وصبر ونكران للذات.

وفي بعض الأحيان، تستغلق لغة المعرفة المنهجية على غير العاملين في مجال معين (كالطب مثلا)، فتبدو وكأنها شيفرة تخالف ما اعتاد عامة الناس في الحديث. وفي الغالب تنتج المعرفة المنهجية مدى واسعا من "الملحقات" التي لا تكتمل حلقة المعرفة إلا بها، مثل المراجع، والدبلومات، وشهادات الإنجاز والتفوق، والمكافآت ومناهج التقييم.

كيف نتعرف على المعرفة المنهجية؟

تهدف المعرفة المنهجية إلى تصور، وإنشاء، واستكشاف ما لا نعرف. ومن ثم فإنها لا يمكن أن تستند إلى التقليد، ولا تطيق الرتابة. وإنما تنظر بعين ناقدة، وتَفحص، وتلقي الأسئلة، ثم تعيد التحقق باستمرار من أساليبها وأدواتها، وكذا من سبل تحصيل المعلومات عبر حواس البصر واللمس والشعور. أما أداتها الأساسية فالمنطق، الذي يرفض ويدحض السطحية والتبسيطية. وباستخدام هذه الأداة، تختبر المعرفة المنهجية بشكل دائم المقاربات التي تستخدمها في تحليل الظواهر وإنشاء التصورات عن المجهول. ومن ثم فإن للمعرفة المنهجية المتعمقة منهاجها الخاص. والمعرفة المنهجية مظلة واسعة، تضمن في كنَفِها المفكرين والفنانين والحرفيين، ومؤلفي الأعمال الفكرية والأدبية والعلماء.

وربما يثار السؤال هنا: أثمة أوجه للشبه بين العالم والفنان والكاتب: مثلا، بين آينشتين، وموتزارت، وشكسبير؟ ربما تكون الإجابة "لا" – إلا لو أعدت النظر. ففي مؤلفات كل من هؤلاء الثلاثة الكبار قدرة عميقة على ملاحظة العالم من حولنا وتأمله ووصفه. وقد رفض ثلاثتهم أن يشاهدوا العالم أو يقاربوه من منظور الاعتيادية المريح الذي فضله آخرون وسابقون. وإنما حاول كل منهم بلوغ مستويات جديدة من المعرفة في مجاله.

ولكن أمِن المنطق أن نضع أنماطهم المعرفية في سلة واحدة؟ في الواقع ثمة اختلافات بين أساليب تحصيل وإنتاج كل منهم للـ "معرفة". والحق أن للمعرفة العلمية خصائصها المميزة.

الصفحات