أنت هنا

قراءة كتاب محاضرات في مناهج البحث العلمي للدراسات الإنسانية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
محاضرات في مناهج البحث العلمي للدراسات الإنسانية

محاضرات في مناهج البحث العلمي للدراسات الإنسانية

كتاب " محاضرات في مناهج البحث العلمي للدراسات الإنسانية " ، تأليف د. نبيهة صالح السامرائي ، والذي صدر عن دار الجنان عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 10

كارل بوبر (1902-1994)

ربما يظل تعريف كارل بوبر Karl Popper الأوجز والأكفأ: العلم معرفةٌ يمكن إثبات خطئها. ومن ثم كان مفهومه المحوري في العلم المعاصر والمسمى "الخطئية" (falsifiability).

يقول بوبر إن العلم سلسلة من المحاولات المستمرة لتفنيد ودحض الأفكار والنظريات السابقة. فكل تجربة ومشاهدة تهدف لمعارضة أو نقض نظرية قائمة. والعلم الذي يبقى ويحظى بالقبول، إذاً، يتألف من مجموع النظريات التي لم يستطع أحد (عند لحظة تاريخية معينة) إثبات خطئها. ومن ثم يَعتبر بوبر التشكك المنظم أساس المنهج العلمي. ويبدو أن ثمة وجه اختلاف جوهري بين بوبر وكُون. فالأول يرى أن العلماء يُجرون تجاربهم ويؤلفون دراساتهم مدفوعين بالطموح لاكتشاف أوجه الخلل أوالقصور في النظريات السائدة (ومن ثم تبزغ نظريات جديدة تتحاشى نقائص سابقاتها). أما الثاني فيرى أن محصلة عمل العلماء في أي لحظة تاريخية تنضوي غالبا في إطار النموذج المعرفي السائد عند تلك اللحظة.

وقد يبدو أن ثمة تعارضا في آراء بوبر. فهو من ناحية يقول إن العلم معرفة يمكن إثبات خطئها. ومن ناحية أخرى يقول إن العلم السائد عند أي لحظة تاريخية مكون من مجموع النظريات التي لم تدحض أو تُخطّأ حتى حينه. ولكن نظرة متأنية ستزيل كل ما قد يبدو من تعارض. ولنعين القارئ على ذلك سنعرض بتفصيل أكثر مفهوم "الخطئية" (falsifiability).

طور بوبر مفهوم الخطئية [أو "التفنيدية refutability كمعيار بسيط وكفوء للتمييز بين ما يندرج في نطاق العلم وما لا يندرج، أو بين العلم الحقيقي والعلم الزائف. والخطئية تعني أنه لكي تكون النظرية علمية، فإنها يجب أن تقدم فرضيات يمكن إثبات عدم صحتها. فمثلا، يمكن أن نصفها بأنها علمية تلك النظرية القائلة بأن الأرض كوكب بيضوي يميل محوره عن محور مداره حول الشمس بثلاثة وعشرين درجة ونصف. وهي علمية لأنه يمكن إثبات خطئها. ففرضيات تلك النظرية تشرح السبب خلف طول اليوم على الكوكب (24 ساعة)، وتعاقب الفصول الأربعة كل 3 أشهر. فإن طلع علينا نهار يوم بلغ طوله 27 ساعة مثلا، أو إن استمر الصيف مثلا لثمانية شهور بدلا من ثلاثة، فذلك دليل عملي، ولا يقبل الشك، على خطإ النظرية. وطالما أن أحدا لم يثبت ذلك (بعد)، فتلك نظرية مقبولة. وعلى الجانب الآخر، التنجيم مثال جيد على النظريات غير العلمية، أو التي لا تندرج ضمن نطاق العلم. ففي التنجيم، مصير الأفراد معلق بوضعية بعض الأجرام السماوية في تراتب معين. فالمنجمون يقولون إن تراتبا على شكل محدد يعني أن الحظ قد ابتسم لمواليد برج كذا. وتراتب على شكل آخر يعني أن حظوظهم العاثرة في انتظارهم. وهذه نظرية غير علمية لأنه لا يمكن إثبات عدم صحتها. فالأجرام السماوية التي يتحدث عنها المنجمون غير محددة. ولو كذب توقع أحدهم لقال لك إن الأجرام غيرت مواقعها، أو سيعيد صياغة تنبؤاته. وإن صدق سيقول لك "ألم أقل لك؟" أي أنك لا تستطيع أن تمسك منجما على خطأ. وما لا يمكن أن يُمسك على خطأ ليس علما.

بول فييرابند (1924-1994)

اي نظرة على منظور مغاير تماما، منظور فوضوي. ففي الستينيات، وبينما كان __) يدرس ، في بيركلي اعتاد بول فييرابند ان يدعو Paul Feyerabend (+ المشعوذين، والمتدينين المؤمنين بنظرية الخلق (وفقا لـ "كتاب الخلق" بالعهد القديم)، والدارونيين، والمنجمين ليشرحوا "علمهم" ويتناقشوا حول "الحقيقة" فيما بينهم ومع الطلاب. فقد كان فييرابند يؤمن أن "كل شيء جائز".

وكان فييرابند يؤمن أيضا أن الغايات تبرر الوسائل في ميدان العلم. وكان فييرابند يسوق مثالا على ذلك بذكر العالم جاليليو، الذي قال أستاذ جامعة كاليفورنيا-بيركلي إنه استفاد من الأكاذيب وتشويه المعلومات والدعاية بقدر ما استفاد من مشاهداته عبر التليسكوب الجديد الذي اخترعه.

وكان فييرابند يعتقد أن جاليليو انتصر بسبب أسلوبه ومهاراته في الإقناع، وإدراكه للمتغيرات التي حدثت في عصره. فهو مثلا كتب بالإيطالية وليس اللاتينية التي كان يؤلف بها علماء عصره. وقد وافق ذلك، كما أسلوب جاليليو عامة، المزاج العام في زمانه والذي بات معارضا للأفكار القديمة وللمعايير التدريسية التي ارتبطت بها. بيد أن ذلك يثير سؤالا كبيرا: لو لم يجد العلماء غضاضة في استخدام شتى أنواع "الطرق" لإثبات فرضية أو نظرية، فما مصير "الحقيقة العلمية"؟ لن تكون الحقيقة العلمية عندئذ أكثر رسوخا من تلك الصادرة عن منجم أو قارئ كف أو ناسك. ولهذا قال فييرابند إن لكل هذه المقاربات ذات القيمة. وحذر فييرابند من المعتقدات العلمية الراكدة، واصفا إياها بأنها قد تصير مصدر خطر؛ وأن على كل مجتمع أن يأخذ حذره من "الديكتاتورية العلمية"، أي غلبة عدد محدود من النماذج المعرفية على شتى أوجه النشاط العلمي في ذلك المجتمع. وقد مهدت هذه الآراء الطريق لبزوغ البنيوية الاجتماعية ما لم يمكن إثبات عدم صحته لا يمكن أن يكون علما.

الصفحات