أنت هنا

قراءة كتاب محاضرات في مناهج البحث العلمي للدراسات الإنسانية

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
محاضرات في مناهج البحث العلمي للدراسات الإنسانية

محاضرات في مناهج البحث العلمي للدراسات الإنسانية

كتاب " محاضرات في مناهج البحث العلمي للدراسات الإنسانية " ، تأليف د. نبيهة صالح السامرائي ، والذي صدر عن دار الجنان عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
الصفحة رقم: 6

بيد أن "التشكك المنظم" في العلم لا يقف عند الفرضيات والنظريات، وإنما يطال كذلك الطرائق المستخدمة في جمع المعلومات. فالعلماء في دأب موصول للتحقق، ليس فقط من صحة فرضياتهم ونظرياتهم، وإنما أيضا للتحقق من الأدلة والمعلومات التي أكدت أو أطاحت بإحدى الفرضيات.

وفي أحسن الأحوال، يتسم العلم التجريبي بالاستقلالية عن الشخص الذي يقوم بالملاحظة أو يجري التجربة. فلُبّ العلم التجريبي أنه موضوعي وغير شخصي، ويتسق مع الواقع كما نراه بأعيننا. كما أنه يتسق مع المعرفة التي أنتجها علماء آخرون وأكدها غيرهم. وفي أحسن الأحوال أيضا، يمنحنا العلم نتائج منطقية، واضحة، لا يلتبسها أي غموض. ويمكن إثبات صلاحية تلك النتائج أو دحضها باستخدام المحاججة والمنطق [وسنتعرف على ذلك بإمعان في الجزء القادم بتناول مفهوم كارل بوبر حول "الخَطَئِيّة" أو "إثبات خطإ النظريات العلمية" (falsification)].

ثم إن النتائج العلمية تحتاج – لتستحق هذا المسمى – أن تتحمل الاختبارات المتعمقة والشاملة التي يجريها باحثون آخرون. فأحد أركان العلم الحديث أن يتمكن الباحثون من الوصول لذات النتائج لو اتبعوا ذات الخطوات التي استخدمها الباحث الذي أجرى التجربة أول مرة. وهذا، في مجموعه، يسمى العقلانية العلمية. ويستطيع العلم الحديث استخراج الحقائق من المعطيات والمشاهدات التي تم التحقق منها باستخدام الطرائق التجريبية. ومن أهم خصائص التجارب أنها تلخص لنا الظواهر المعقدة في معلومات رياضية. فمثلا، لو أننا لاحظنا أن عدد الأسماك في بحيرة ما يتناقص، نستطيع أن نصف تلك الظاهرة بمعلومات رياضية: كم عدد السمكات الصغيرة في لتر مكعب من الماء؟ وكم كان عددها قبل أسبوع وبعد أسبوع؟ ما وزن السمكات في لتر مكعب من الماء، قبل وبعد أسبوع، مثلا؟ ما متوسط ما تنتج تلك البحيرة بالكيلو جرام خلال الشهر الماضي؟ وخلال هذا الشهر؟ ما مقدار الملوثات في اللتر المكعب من ماء البحيرة؟ وكيف يقف هذا الرقم أمام نظيره من الشهر الماضي أو العام الماضي؟ وهكذا دواليك. ويختلف ذلك بالطبع عن التوجه غير العلمي الذي يأخذ الظواهر ككل هلامي لا يستطيع المرء أن يفعل شيئا حياله.

والخلاصة أنه بينما ركز العلم القديم على محاولة شرح الـ "لماذا" (أي أسباب تغير ظاهرة ما) يركز العلم الحديث على الـ "كيف" (أي السعي لفهم وتحليل كنه أو جوهر الظاهرة، وعلاقة أصل الظاهرة بالتغير الحادث فيها). قبل أن نناقش الطريقة العلمية، نلقي أولا نظرة على الطرق المتاحة الأخرى لفهم العالم من حولنا.

أثمة شيء غير العلم يساعدنا على فهم العالم؟

تاقَ البشر دوما لفهم الطبيعة من حولهم وكذا لتفسير السلوك البشري. ومن بين المقاربات العديدة التي استخدمت، كان الدين الأوفر حظا بتوفيره بعض الإجابات. إذ اعتبره كثيرون طريقة لبلوغ الحقيقة. ويقول رجال الدين إن لديهم إجابات لأسئلة مثل: من نحن؟ أين نحن؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ ما الغرض من الحياة على الأرض؟ وغيرها. ولاتزال الأديان الكبرى حتى اليوم يقدم كل منها رؤاه للكون، من المنشإ حتى المنتهى. ومن ثم فإن الصحافي الذي يكتب حول العلم يجب أن يحترم الأديان، باعتبارها تقع ضمن نطاق اهتمامات الأفراد كل على حدة. ويجب على الصحافي أيضا، لدى الحديث عن العلم، أن يتأكد من نأي مقالته أو مادته الإعلامية عن السياق الديني ونقاشاته. وأحيانا يتناقض الدين والعلم. فهناك حالات معروفة لعلماء أُدينوا لأنهم قالوا بحقائق تعارض ما قال به الدين. مثلا، أدانت الكنيسة الكاثوليكية كوبرنيكوس وجاليليو لأنهم قالوا بأن الأرض كروية وأنها ليست في مركز الكون.

ومن بين المقاربات التي استخدمت لفهم العالم أيضا مفهوم "المرجعية اليونانية". والمقصود بذلك أنه إذا أدلى مفكر إغريقي مرموق ومشهور برأي في الأزمان الغابرة، فإن ذلك الرأي يظل صالحا للأخذ به أبد الدهر. ومن أمثلة ذلك الهالة التي تُخلع على مؤلفات الفلاسفة الكبار مثل أفلاطون، وأرسطوطاليس، وفيثاغورس، أو النُّسّاك البارزين مثل هِرمس االيوناني، الملقب بثالث الثلاثة الكبار.

ولدينا كذلك في مجتمعاتنا هذه الأيام السحرة، والمعالجون، والدراويش، والذين يقدمون بدورهم رؤاهم حول العالم من حولنا. ولدى الكثير منهم معرفة ما بمحيطهم، قد تكون معرفة عملية مباشرة، أو استبطانية غير حسية (mystical). وفي المقابل هناك من يتبع الخرافات والتهويمات، بينما يطور آخرون أنظمة موازية للمعرفة، كما الحال في القبائل البدائية في أفريقيا وآسيا. وكل هذه أنظمة معرفية ليست "علمية" وفق التعريف الحديث، ولكنها بصورة ما حفظت بقاء قبائل أو تجمعات بشرية لمئات السنين.

الصفحات