أنت هنا

قراءة كتاب ألوان المغيب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ألوان المغيب

ألوان المغيب

كتاب " ألوان المغيب " ، تأليف عبد الواحد لؤلؤة ، والذي صدر عن دار المؤسسة العربية للدراسات والنشر .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 8

في قصيدة المرأة في الشعر ما يشبه مانفيستو جبري حول مصدر الشعر عنده· فهو يطلب من المرأة أن تناجيه كما ناجاها في سواد الليل، فهي ملهمة الشعر:

هاكِ القريض فهزّي سلكه هاكِ

ناجي الـذي في سـواد اللـيـل ناجـاكِ

إذا القوافي أبت يوماً مطاوعتي

نـَحوتُ في خطرات الشعر منحاكِ

وبعد ذلك تأتي سلسلة الأوصاف التقليدية في التغزّل بالمرأة: أنتِ الحياة، والأنس، والربيع، والعنادل، وغصن البان؛ وعيونكِ مصدر سحر عيون المها، وضياء الشمس، وهبة الريح الناعمة، ومرآكِ هو الذي تيـّم الليلة الليلاء· هنا يسخـّر الشاعر جمال الطبيعة لتكون في خدمة أوصاف المرأة·وإذ يعترف الشاعر في أول قصيدته أن المرأة هي التي تلهم الشعر، فكيف له أن يعتذر عن غزله بعد كل هذا؟

وثمة نوع آخر من الحب في شعر جبري ليس بالشاعر حاجة للاعتذار عنه· إنه حبّ البلاد العربية، وحبّ لبنان بخاصة: ففي قصيدة في ظلال الأرز (1924) نجد الشعور الوطني الوحدوي في أصفى صورة· تبدأ القصيدة بداية تراثية، إمعاناً في الإنغراس بالتراث، الصحراوي الجاهلي إن شئت: يا طاويَ البيد إن يمـّـمت لبنانا· هل في بلاد الشام، التي يبدأ الشاعر أو المخاطب فيها رحلته، أية بيدٍ، كما في الصحارى العربية؟ إنه يتوجـّـه إلى بلاد الأرز لينثر عليه ورداً وريحاناً حمله من غوطة الشام· ثم لا ينسى البكاء منذ أن أوقف امرؤ القيس راحلته ليبكي· ولا ينسى كذلك نسمة في ظلال الأرز طيبـّـة··· هبـّت عليّ وفي أعطافها أرَجٌ من صنوبر بيروت كما هبـّـت الريح من تِـلقاء فاطمةٍ وبعد المقدمة، ندخل في الجدّ· فدخول لبنان يُـزيل الهموم والأشجان· ففي جنان الأرز تـُـسمع أحاديث الحسان ذوات السـِّـحر الذي يملأ أهداباً وأجفاناً ولا همّ لهن سوى جر الذيول أما نحن، فقد كـُـتِـبَ القتلُ والقتال علينا وعلى الغانيات سحب الذيول وفي رواية وعلى الآنسات ووجود الحسان سبب تـَـقـَـرّ به خواطرنا فنطيق عذاب العيش وهنا نهاية مقطع ثانٍ من القصيدة الغزلية أساساً· وفي المقطع الثالث دعوة صريحة إلى وحدة لبنان وسوريا، وعتاب على أهل الأرز الذين آثروا الهجران· والهجران عكس المحبة، وموضوع القصيدة، محبـّـة الغوطة للأرز· الدين لله والوطن للجميع، ويجب ألا تكون الأديان سبب فرقة، لأننا جميعاً نمتُّ إلى أحياء عدنانا

تعود هذه القصيدة الوحدوية إلى أوائل عهد الانتداب الفرنسي، ولبنان أقرب البلاد إلى الشام وهذه واحدة من أربع قصائد تفصح عن أول رغبة في وحدة البلاد وإذ يمتزج في هذه القصائد اللهج بالطبيعة باللهج بالشعور الوطني: فإنها قصائد غزل بالوطن بالدرجة الأولى·

وقصيدة مناجاة الأرز (1920) قيلت بعد دخول الفرنسيين بخمسة شهور، والشاعر في الثانية والعشرين من العمر، مما يدعو إلى الإعجاب بامتلاكه ناصية اللغة والنظم الدقيق· والقصيدة في هذا الوقت المبكـّـر من عهد جبري بالشعر تعبـّـر عن التصاق شديد بالنمط التراثي الجاهلي، وتتردد فيها أصداء كثير من قراءاته في الشعر القديم· فالوزن الذي يجري على بحر الطويل يذكـّـر بأجواء معلقة امرىء القيس· والجوى في حواشي الصدر والوجد الذي أنا حامله تعيد للذهن أجواء كِـليني لهمِّ يا أُمـَـيمةٌ ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب وهذه البلابل التي في الأحشاء وفي القلب هي من غريب اللغة التي تصرف الذهن عن البلابل المغرّدة· وأرعى النجوم هذه صدى من وليس الذي يرعى النجوم بآيبِ والحنين إلى لبنان والأرز مائج لماذا تنوح عليه في العشا يا عنادله ورحلة الشاعر إلى لبنان رحلة فرح واستبشار؟ أم أن البكاء لا بد منه عند ذكر الحبيب والمنزل؟ حبّ لبنان والوطن واضح في عبارة تقريرية: لنا وطنٌ لا ينبغي أن نبيعه فما في نعيم الدهر شئ يعادله، تستذكر: ولي وطنٌ آليتُ ألاّ أبيعه وألاّ أرى غيري له الدهرَ مالكا· وتستذكر كذلك قول الشبيبي: خسِـرت صفقتكم من معشرٍ شروا العار وباعوا الوطنا، أرخصوه، ولو اعتاضوا به هذه الدنيا لقلـّـت ثمنا· ثم تأتي الدعوة الصريحة إلى توحيد لبنان والشام، في عتاب رقيق، لا يسلم من المفردات العتيقة مثل اللهاذم والصياقل، وكأن الفتى بالشام مايزال يطوي فِـجاجها فترتاع في طيّ الفجاج رواحله لا أدري كيف اجتمعت غيطان الشام مع الفجاج التي لا تسير فيها سوى الرواحل والإبل· أهي محاولة لإضفاء المـُـحدث على القديم؟!

في قصيدة لبنان أيتها الرياح غزل بلبنان وبمراتع الغزلان وقد هِـجْـنَ صبابتي مع عتاب لساكني لبنان ودعوة لنبذ الشتات، لأنه وإذا القبيل تقاطعت أرحامهم هبطت مراتبهم على الأزمان

في القصائد التي تخاطب لبنان دعوة صريحة إلى الوحدة، وهو ما يميز الشعور الوطني لدى الشاعر في الحقبة التي أعقبت زوال الاحتلال العثماني وما تبعه من احتلال فرنسي· عواطف جياشة ولغة فيها جزالة الشعر القديم في تناول موضوعات معاصرة·

ثمة عدد من قصائد التنويه بشخصيات أدبية أو من المراثي لشعراء كبار، عالجها جبري ووردت في ديوانه نوح العندليب· من ذلك ذكرى ولي الدين يـَكـَنْ (1912) وقد أُُلقيت هذه القصيدة في المجمع العلمي العربي بدمشق، وهو تكريم نادر لشاعر شاب في أوائل العشرين من العمر يرثى أديباً مرموقاً· ليس في هذه القصيدة ما يذكـّـر بالشعر القديم من حيث الصياغة أو المفردات العتيق، بل تبدو كأنها كتبت بالأمس القريب على وزن بحر الكامل: متفاعِـلنْ متفاعِـلنْ متفاعلُ· لكن الملاحظ أن جبري، بعد اطلاعه على قصيدة اللبناني قبلان الرياشي، كما يخبرنا في أنا والشعر ص 05، رأى أن يعيد النظر في قصيدته لتشير إلى أعمال يـَـكـَـنْ، لتكون المرثاة خاصة به دون غيره· وكنت من ذلك التاريخ لا أرثي شاعراً أو كاتباً دون أن أرجع إلى طائفة من آثار شعره أو كتابته، حتى أقتبس عنها ما أضمـّـنه في رثائي··· ليس هذا من باب التواضع في التعلـّـم من شاعر معاصر وجد جبري أنه يستطيع أن يفيد منه وحسب، بل إنه يقع في باب التعلـّـم من الشعر، قديمه وحديثه، وهي صفة محمودة ولاشك·

في قصيدة أمير البيان (1924) في رثاء المنفلوطي، وقد أُلقيت في المجمع العلمي العربي بدمشق كذلك، نجد مزيداً من الإشارات إلى أعمال المنفلوطي واقتباسات من أفكاره· في رثاء وليّ الدين يـَـكـَـنْ ثمة مبالغةً في مديح الفقيد، تعبيراً عن إكبار الشاعر له:

أرضُ الـعـراق وما ثِــلاتُ ديـاره

تبكي عليك بطونـُـها وظهورُها

قـَـلِـقـَـتْ لضجعتك الشآم فزُلزلت

غـيطانها وسـهـولها ووعـورها

ربما كان وليّ الدين يـَـكـَـنْ معروفاً في أوساط الأدب في بلاد الشام بحيث تتزلزل الغيطان والسهول والوعور لضجعة الفقيد· ولكني لست واثقاً أن هذا الأديب كان معروفا في العراق إلى درجة أن أرض العراق وماثلاتُ دياره تبكي عليك بطونها وظهورها ثم، كيف تبكي البطون والظهور؟ هذه استعارة أو كناية أو مجاز علمه عند ربي! والمبالغة في المديح في رثاء المنفلوطي أكثر اتساعاً مما في القصيدة السابقة· فقد تغلغل وحي المنفلوطي في الغوطتين، وفُـجع النيل بموته، كما فـُـجعت بقايا مضر من العرب، وهذا في نظري أكثر من الكثير· ويفخر الشاعر بأن بعض الصحف أشارت إلى حفلة التأبين وما قيل فيها من شعر وبخاصة إلى أحد أبيات قصيدة جبري:

ألـَـم يكفِـنا أن نـُـضيع الدِّيار

فرُحنا نضيع رجال الفكر

ويرى أن ذلك يدل على مقدار الشعور الوطني في البلاد· أليس في هذا تجاوز لحدود الفخر؟!

في قصيدة المتنبي (1935) التي ألقاها جبري في مهرجان الجامعة الأميركيةببيروت، نجد أفضل أمثلة التناص والتضمين من شعر المتنبي في قصيدة شارفت على السبعين بيتاً، نلمس فيها نضوج اللغة الشعرية عند جبري· وكأن الشاعر يستمد ديباجته من جزالة شعر المتنبي، ماليء الدنيا وشاغل الناس، على رأي ابن رشيق القيرواني في كتاب العـُـمدة· هوامش محقق الديوان تسدي خدمة كبيرة للقصيدة، وبخاصة لغير المطـّـلع على شعر المتنبي· ففي بيت مثل: في سماع الزمان منه دويٌّ ترك الشعرَ خالداً إنشادُه قد تستوقف القارئ كلمة دويّ التي قد توحي خارج السياق بمعنى غير محبـّـب، إذ قد تفيد الضوضاء· لكن الإشارة إلى بيت المتنبي: وتركـُـكَ في الدنيا دويـّاً كأنما تداولَ سمعَ المرء أنمـُـلـُـه العـَشرُ تبعث حياة ثرّة في الكلمة، هي حياة شعر المتنبي الدائمة على مرّ العصور وملء الأسماع· ومثل ذلك البيت المها والمدام والوتر المطرا بُ لـَـغوٌ يعافه تـَـوْءادُه أي رزانته في الحياة· كأن في هذا ردّاً على مذهب الخيـّام في انصرافه إلى الشراب والنساء والغناء· هنا إشارة إلى بيت المتنبي: وغير فؤادي للغواني رميـَّـة ٌ وغير بناني للزجاج ركابُ والزجاج والزجاجة كناية عن قدح الخمر، كما في شعر المتصوّفة: رقّ الزجاج ورقـّـت الخمر فتشابها فتشاكل الأمر، فكأنـّما خمرٌ ولا قدحٌ وكأنـّما قدحٌ ولا خمرُ بنان المتنبي ليمسك بالقلم ليكتب الشعر، لا ليمسك بقدح الشراب، فقد ترك ذلك لغـَـيرِهِ ومثل هذه الإشارات والتضمينات كثيرة في هذه القصيدة، مما يثري قيمتها الفنـّـية بشكل ملحوظ يجعلها تختلف كثيراً عن قصائد سابقة· يخبرنا جبري في كتابه أنا والشعر، ص 65 ومواضع أخرى أنه منذ بداية المراثي بقصيدة وليّ الدين يـَـكـَـنْ صار يخطط لقصائده وينسـّـق لها في ذهنه بالرجوع إلى شعر المرثيّ وأعماله، ليستخلص منها صورة لشخصيته في زمانه، ويتابع بعض حوادث في حياته، ويشير إلى البلاد التي زارها أو أقام فيها وما عرض له في بعض تلك البلاد، مثل إصابته بالحمـّـى في مصر، وتذكـّـره العروبة في دمشق، ومشاهد بوّان وملاعب جـِـنـّـةٍ لو سار فيها سليمانٌ لسار بترجـُـمان، ووصف الثلوج في جبال لبنان، إلخ· ويرى جبري أنه بهذا التنسيق وتقسيم القصيدة إلى مقاطع يكون قد وفـّـى المتنبي حقـّـه·

في قصيدة أبو العلاء المعرّي(1944) وقد أَلقاها في مهرجان المعرّي في مدرج الجامعة السورية، نجد مثالاً آخر لنضوج اللغة الشعرية، وتقسيم الموضوع وكثرة الإشارات إلى شعر المعري وحياته، مما يقدم صورة المعري للشاعر وللقارىء من بعده· ومثل مانجد في قصيدة المتنبي، تكون الهوامش والإشارات ذات قيمة كبرى في تذوّق قصيدة جبري هذه· وكأن جبري يتلبـّـس آراء المعري في الحياة والناس من خلال التناص مع شعر أبي العلاء· مـَـثـَـلُ ذلك قول جبري: فـَـسـَـد الخلقُ من قديم الليالي واستوت في فساده أزمانـُـه وهذا ينظر إلى قول المعرّي بعبارة جبري: كذاك كان بنو الإنسان مذ خلقوا فلا يظن جهولٌ أنهم فسدوا وثمة قول جبري: ليتَ نوحاً على السفينة والكو نُ غريقٌ يـَـعـُـمـُّـه طوفانه صورة من بيت المعرّي: والأرض للطوفان مـُـشتاقةٌ لعلـّـها من دَرَنٍ تـُـغسـَـلُ ويسوّغ جبري هذا الاهتمام بالمعرّي وبالتراث الشعري جميعه بأنـّـه: ليس يفنى شعبٌ تغنـّـى بماضٍ ملأ الدنيا نعمةً عـُـنفوانـُه هنا روح جبري العريقة في تقديس الماضي، من خلال إحياء ذلك الماضي، بالاستهداء بما أبدع من شعرٍ ظلَّ يهتدي به الشاعر في ما كـُـتب من شعر· وقد حضر مهرجان المعري أئمة الأدب في بلاد العرب كلها وأولهم طه حسين· فلما ألقى الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري قصيدة مطلعها:

قِـف بالمعرَّةِ وامسح خدَّها التـَـرِبا

واستوحِ من طوّق الدنيا بما وهبا

ألهب مشاعر الحاضرين؛ فلما بلغ قوله في الحديث عن فكر المعرّي النيـّر:

لـثـورةِ الفِـكـر تـاريــخٌ يـُـخـبـِّـرنـا

بأن ألفَ مـسيحٍ دونـهـَـا صـُـلـبا

نهض طه حسين من مجلسه في ما يدعى سجدة شعرية وصاح: صـَـدَق الرسول الكريم: إن من البيان لسحرا

في هذه القصيدة، كما في غيرها، يشير جبري إلى أنه يغتنم الفرصة للإعلاء من شأن الشعر، لاعتقاده أن بعض رجال الحكومات يكرهون الشعر والشعراء، أو يكرهون شعراء بأعيانهم، فاغتنمتُ فرصة القصيدة لأرفع من منزلة الشعر (أنا والشعر، ص 07)· هنا كذلك، يشرح جبري طريقته في النظم، إذ توحي لفظة بصورة تتبعها صور أخرى، حتى تستقيم الأبيات في صورة واسعة متكاملة· وهذا هو مفهوم ترابط الأفكار association of ideas في الشعر الرومانسي، الذي شاع خطأ في الكتابات العربية في شكل تداعي المعاني فالكلمة في الأصل تفيد الأفكار لا المعاني meanings· كما في قصائده الأخرى في التنويه بمنزلة الشاعر موضوع الرثاء، نجد صنوفاً من المبالغات في التعبير عن رأي جبري من تميـّـز ممدوحه سواء في قصيدته عن المتنبي أو المعري أو يـَـكـَـنْ، وهذا تعبير صادق عن إعجاب مخلص، لا ينمّ عن مجاملة ولا رياء· مثل ذلك نجده في قصيدته في مهرجان شوقي بعنوان شاعر العرب (1985) وقد أُلقيت في مهرجان أسبوع شوقي في القاهرة· يبدو لي أن جبري كان يحسّ بالتماهي مع شوقي، فهو أقرب شعراء الكلاسية المحدثة إليه في الزمان وفي الأسلوب، على ما بين الأسلوبين من فرق في استلهام قديم الشعر العربي· وكما نجد المبالغات في قصائد الرثاء السابقة في التعبير عن إعجاب جبري بشاعره، نجد مثل ذلك في قصيدته عن شوقي:

إيه شوقي! لو كان للشعر ربٌّ

جَـعَـلـَـتـْـكَ الأذواقُ للشعر ربـّـا

وهذا يجعل من شوقي أپـولـّو عربياً؛ وعلينا أن نبحث له عن معبدٍ وبخور!

في جميع ما كتب جبري من شعر ضمـّـه ديوان نوح العندليب نلمس إحساساً واضحاً في صورة الأناويـّة أي التوكيد على أنا الذات· وقد يكون ذلك مما يمكن التغاضي عنه لدى شاعر في مطلع العشرينات من العمر، يقول قصيدة بعنوان شطَّ المزار كتب جبري في أنا والشعر (ص 61): وأذكر أني ألقيتُ هذه القصيدة في سهرة خاصة في دار خير الدين الزركلي في دمشق· ولم نكن إلا أربعة بيننا الشيخ رضا الشبيبي··· ولما فرغتُ من إلقاء قصيدتي ظهرت الكآبة على وجه الشبيبي فقال: لو لا أن قصيدتك أبكتنا لصفـّـقنا لكل بيت هذه ذَرْذَرَةُ أسماء لكبار الشخصيات، أحسب أنّ الغرض منها: كنتُ مع هؤلاء الكبار! وحول قصيدة ياللثغور وقد كتبها يوم تجاوز العشرين من العمر بسنة واحدة، كتب في ص (69) من كتابه: وقد كنتُ جالساً في مقهى من مقاهي دمشق، وإلى جنبي معروف الرصافي، وكان اسمه في تلك الأيام مدوّيا، فأحببتُ أن أتعرّف إليه، فانتسبتُ إليه وقلت: إن معي قصيدة أريد أن أعرف رأيك فيها· فقال: هاتها، ولكنه لم يحفل بي كثيراً أول الأمر، فأخرجتُ القصيدة، وشرعتُ في قراءتها، فما كدتُ أقرأ منها بيتين أو ثلاثة أبيات حتى اهتزّ وأخذ يهتم بي، فلما أتيتُ على القصيدة كلها: سألني: متى شرعتَ في نظم الشعر؟ فقلت له: من ثلاث سنين، فلم يصدّق قولي· وقال: هذا الشعر لا يتأتـّى لصاحبه إلاّ بعد عشر سنين أو خمس عشرة سنة··· وفي الثانية والعشرين من العمر نشر جبري قصيدة مناجاة الأرز في جريدة البرق لصاحبها بشارة الخوري، دعوت فيها إلى انضمام لبنان إلى الشام فعلـّـق الخوري على القصيدة بقوله: بمثل هذا البيان يخطب ودّ القلوب· وبمثل تلك العاطفة تتوثـّـق عـُرا المودّة (أنا والشعر، ص 02)· وحول قصيدته عن المتنبي في مهرجان الجامعة الأميركية في بيروت قال جبري إنه كان من بين كتـّـاب وشعراء، في جملتهم حسين هيكل والرصافي ولما عاد الرصافي إلى دمشق بعد المهرجان سأله المرحوم معروف الارناؤوط، صاحب رواية سيدّ قريش كيف كان مهرجانكم؟ فقال له الرصافي: لم يصفـّـقوا لي، ولكنهم صفـّـقوا لشفيق لجبري (أنا والشعر، ص 69)·

على الرغم من مظاهر الأناويـّة هذه عند شفيق جبري، وعما يتسم به شعره من مبالغات وحماسة في التعبير عن مشاعر تجاه موضوعاته، فإن الإنصاف يقتضي النظر إلى شعره في حدود ظروف زمانه ومكانه، وقبل ظهور شاعر عملاق لا يخجل من الغزل ولا من التعبير عن أدق مشاعر الحب، سواء كان ذلك في طفولة نهد أو في قالت لي السمراء·

الصفحات