كتاب "بغداد حبيبتي (يهود العراق – ذكريات وشجون)"؛ كتبت هذه الذكريات بصورة عفوية اثارتها دعوة الأستاذ الشاعر عبد القادر الجنابي لاجراء مقابلة معي يكتبها الدكتور سمير الحاج المحامي، ثم انهالت الذكريات مسلسلة كلما اثارت الاحداث حلقة منها، كتبتها للحقيقة والتار
أنت هنا
قراءة كتاب بغداد حبيبتي (يهود العراق – ذكريات وشجون)
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 4
"والذكريات صدى السنين الحاكي"
يهود العراق، ذكريات وشجون، الحلقة (1)
12/02/2007
أ.د. شموئيل موريه
الأيام الأخيرة في مسقط رأسي في محلة حنون صغير في بغداد القديمة
المؤلف في المهد في السنة الاولى من حياته في دارنا في محلة حنون صغير ببغداد القديمة - 1933
قضيت طفولتي الباكرة في محلة حنون صغير في بغداد القديمة حيث كنا نسكن مع "سِيّدي" (جدي) الحاخام مئير معلم رحمين أبراهام مؤلف كتاب "مقتطفات من كلام الرب" (بغداد، مطبعة شوحيط، 1936-1939) في سبعة أجزاء باللغة العبرية. وكنت أراه طوال ساعات لا نهاية لها جالسا وهو يؤلف كتابه هذا دون ملل أو تعب، وقد ترك مهنة الصياغة التي اشتهرت بها عائلته ليتجنب الغش الذي يمارسه بعض الصياغ في خلط المعادن الثمينة بالخسيسة، وذلك عن تقوى وحبا في الأمانة وطاعة الرب وليتفرغ لواجباته الدينية في سبيل الدين والعلم، يحقق ويؤلف ويراجع المخطوطات والكتب الضخمة. ولكي يكرس وقته لوجه الله والعلم. وقد مال جدي إلى التصوف (القبالا)، ورجالها يؤمنون مثل المتصوفة المسلمين بالرؤيا والأحلام والخوارق والكرامات، وكان يأخذني قبل صلاة يوم الجمعة الى الكنيس الذي كان يؤمه ويلقي مواعظه فيه لكي يفتح سفر التوراة على الإصحاحات التي يجب تلاوتها في ذلك السبت. وقد روى أحد المؤرخين اليهود بأنه كان يؤمن بخلود الروح وانها بعد وفاة صاحبها تأتي لزيارة احبائها على صورة حمامة بيضاء، على الأغلب، وانه طلب من صديقه أن يزوره بعد وفاته، ولما شاهده جدي في الحلم، سأله لماذا لم يَفِ بوعده ويزوره، فأجابه بأنه أتي لزيارته على صورة حمامة بيضاء ودخل غرفة نومه، ولكنه قام بطرد الحمامة ولم يدرك بأنها روح صديقه الذي جاء لزيارته وفاء بوعده. وكثيرا ما يرمز اليهود والمسيحيون الى الروح بحمامة بيضاء. ومن الغريب أننا عندما كنا في سبعة أيام المأتم على روح والدي إبراهيم معلم وحضر الصلاة الحاخام السفارادي الأكبر مردخاي إلياهو وعضر الكنيست أيلي كباي، وكان باب الدار مفتوحا على مصراعيه، وقف طائر من نوع الزرازير على القوس الحديدي لمدخل الحديقة الأمامية أمام المصلين، وصار يصدح بصوت عال وهو يتمايل يمنة ويسرة، حتى استرعى انتباه جميع المصلين وعجبهم. أما العرب في الجاهلية فكانت تعتقد بأن طائر "الهامة" يخرج من رأس الميت، فإذا كان قتيلا نادت الهامة على قبره "أسقوني"، لكي يؤخذ بثأره، وقيل انها تقيم عند أهل الميت لتعلم ما يكون من امر احبائه فتخبر الميت. وقد روى احد اصدقاء العائلة وهو ناجي بن يهنا الذي اغتال قصابٌ والدته لمطالبتها برد دينه إليها، إنه طوال طريق سفره، عندما قدم إلى بغداد بسفينة شراعية بعد أن وصلته برقية نعيها، كان يرافق سفرته طائر أبيض من نوع النورس، وقال بأنه متأكد من أن هذا النورس كان روح والدته ترافق وحيدها في عودته ليشارك في مأتمها.
ولكي تؤمّن معيشة العائلة، قامت جدتي "مسعودة" بإدارة مشغل للتطريز المقصيات بخيوط الذهب والفضة تعمل فيه ما لا يقل عن ثلاثين عاملة لإعالة العائلة. ولعل أخي مراد ورث منها موهبته الفنية في الرسم وورثت أنا من جدي هذه المثابرة على المطالعة وحب الكتب والتأليف.
وعندما توفي جدي عام 1939 كنت في السادسة من عمري ولم يسمحوا لي، لصغر سني، في الذهاب الى مقبرة اليهود مع حشود المشيعين ممن كانوا يتدارسون كتب جدي في الوعظ أو يستمعون الى مواعظه ودروسه الدينية في أيام السبت في كنيس "فرحة" وكنيس "ريمه" في بغداد القديمة. تركوا الاطفال الصغار ينامون في أسرّة الكبار، غفوت قليلا من تعب السفر من البتاويين الى حنوني. إستيقظت فجأة، لم تكن المفاجأة أنني وجدت نفسي في بيت جدي وفي سرير غير سريري، ولكن المفاجأة كانت مفاجأة روحية غريبة، وتساءلت كيف وصلت الى هذه الحياة وفي هذا العصر، من حياة سابقة كنت احياها في غابر الزمان، في عالم آخر ودنيا أخرى كنت اعيش فيها، تختلف عن هذا الواقع وهذه الحياة الجديدة عليّ الآن وفي جسدي هذا؟؟ وبعد سنين وأنا ابن العشرين، شعرت بمثل ذلك الشعور العجيب لحياة سابقة عاشتها روحي من قبل. ففي عام 1953، ذهبنا جماعة من الاصدقاء المجندين، قالوا بأنهم يعرفون صريفا خشبيا في معبرة (مخيم للاجئين) "كفار أونو"، تقطن فيه عائلة تستضيف شبان يدفعهم جوعهم الى فتاتهم الجميلة التي رحبت بنا والدتها بقولها، "عندي بنيتي نظيفي اقطيفي، تعجب خاطغكم"، وهناك حين اضعت بتولتي، شعرت بشعور غريب، كأني عرفت هذا التوهج الروحي والجسدي الساحر المسكر في حياة غابرة، مررت به في دنيا آخرى سحيقة في القدم، احياها مرة أخرى من جديد، ووجدتني مرة آخرى أمر بنفس التجربة، تجربة روحية عن حياة سابقة لهذه الحياة، أرسلت في جسدي رعدة من الصفاء الروحي وتجلي دنيا غابرة سحيقة في القدم، عشتها مرات ومرات في حياة سابقة متوغلة في دهاليز الأبد السحيق.
ومنذ صغري أدركت بأني لا أصلح للتجارة التي كان يمارسها الكثير من يهود العراق. كنت في الثالثة من عمري، عاشقـًا لكحلا ابنة عمتي ريما، ذهب الجميع وبقينا وحدنا في البيت وقد أصابنا الملل. عرضتُ علي ابنة عمتي عرضا لا يمكن ليهودي رده: "تالي (تعالى) انبيع!"، قالت: "ميسيغ (ممنوع) تطلع للدرب لَيْكونْ يضغبك المسلم"، قلت: "وليش يضربني المسلم؟". أجابت: "ألم يحذرك والداك؟" لم آخذ تحذيرها بمأخذ الجد، فتشت عن بعض الملاعق والشوكات والسكاكين الفضية "من شغل العجم"، وهي من مهر والدتي الذي دقق والدي في الحصول على كل حاجة شرطها في وثيقة الزواج. فحسب تقاليد اليهود تقدم عائلة العروس الجهاز والمهر للعريس، تصل تكاليفها في بعض الأحيان إلى أن يقضي والد العروس العمر في تسديد ديونه. فتحت الباب بعد أن صعدت على كرسي ووضعت الملاعق الفضية وغيرها على طبق من الصيني. ضحك بعض المارة لصغر سن هذين "التاجرين": "هذولي غير أيهود؟ والله بعد مفقسوا (لم يخرجوا) من البيضي وقيشتغلون بالتجارة!". جاء "ويحد ليبس چراوية وزبون": "وِلْكُم هذا شِنْهَـوْ ؟ هذا بيش اتبيعونه؟"، قلت: "أبدينار"! حمل لابس الچراوية الطبق وسار في طريقه غير مكترث لصراخي وأنا متشبث بذيل دشداشته: "وين الدينار، وين الفلوس؟"، دفعني ومضى دون أن يجرؤ أحد على اعتراض طريقه. عدت باكيا إلى البيت، قالت كحلا، "مقلتولك لا تطلع للدغب (الدرب)؟". غضب الوالدان، وقالت أمي: "وي غماد! (رماد عليك) مقلتولك لا تطلع للدغب ليضغبك المسلم؟، الله سوالك نيس! (هذه كرامة من الله)، مليح ما طلع خناق الولاد وذبحك!". وقال الوالد: "قَـتْغيد أخلص خبزك هسّه؟ قلتولك كغـّة (مرّة) وألف لا تطلع للدغب ابحدك تغا يضغبوك!"، (اتريد أن اقضي عليك الآن! ألم أقل لك ألف مرة ومرة لا تخرج لوحدك، سيضربونك!" علق عمي يونا على الحادث: "هذا أشلون تاجر؟، ما شا الله علينو، من أول غزاته انكسرت عصاته!".


