أنت هنا

قراءة كتاب بغداد حبيبتي (يهود العراق – ذكريات وشجون)

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بغداد حبيبتي (يهود العراق – ذكريات وشجون)

بغداد حبيبتي (يهود العراق – ذكريات وشجون)

كتاب "بغداد حبيبتي (يهود العراق – ذكريات وشجون)"؛ كتبت هذه الذكريات بصورة عفوية اثارتها دعوة الأستاذ الشاعر عبد القادر الجنابي لاجراء مقابلة معي يكتبها الدكتور سمير الحاج المحامي، ثم انهالت الذكريات مسلسلة كلما اثارت الاحداث حلقة منها، كتبتها للحقيقة والتار

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: مكتبة كل شيء
الصفحة رقم: 7
هذه الصداقات الحميمة في البتاويين استمرت سنوات قليلة. وصرنا نحن أطفال اليهود نتكلم اللهجة الإسلامية بطلاقة مما اكسبنا ثقة بالنفس وشعورا بالمساواة. كان عزرا اليهودي الساكن في شارع في ظهر شارعنا رمزا لهذه المساواة. يلبس الدشداشة ويشد وسطه بحزام مثل صغار أولاد العرب من الطبقة العاملة وكان يلعب "الدعبل" و"الچعاب" و"الطره بلبل" مع كبار الأولاد المسلمين ويتبادل معهم السباب والضرب دون مراعاة لأحد. كان إذا "زاغله" (خدعه) أحدهم، يضربه على قفاه ويسبه بقوله: "ولك أخّ الكـ..ـة تزاغلني!"، فلا يرد عليه خصمه بمسبة بل يعتذر. مـّّر أحد "المعدان" من سكان "ورا السـدّة" وشاهد ما لا يستطيع عقله استيعابه، يهودي واسمه عزرا يضرب أولاد المسلمين ويشتمهم دون أن يردوا عليه ويعلموه درسا في آداب الذمة والصحبة وحسن المعاشرة مع المسلمين. ثارت نخونه البدوية وصاح متحرشا بعزرا: "ولك! انته شـسمك؟" فَـهِـم عزرا بأن هذا الغريب عن "العگـد" (المحلة) يتحرش به ويريد اختلاق سبب لضربه وتأديبه. رمى عزرا الكعاب من يده بغضب وانتصب واقفا ورفع يديه وأبرز صدره ونطح به خصمه وصاح به غاضبا: "ولك آني إسمي <عـِذْرا>!" فترنح الخصم لهذه النطحة المفاجئة وتراجع قليلا وخاصة عندما رأى أنه لا يوجد من بين المسلمين من "يَتفزّعْ لَهْ" وأجاب مفتشا عن طريق للتخلص من هذه الورطة التي زج نفسه بها، فقال: "ها زين، بس أگول! (طيب، أردت الاستفسار فقط!) وذهب لشأنه قانعا من الغنيمة بالهزيمة. ولا يعلم هذا القانع بالهزيمة أي مغنم غنم. فلو واصل هذا "الخايب" "العركة"، لتلت نطحة الصدر "براسية" (نطحة رأس أو كلّة) هائلة ولا نطحة زيدان لاعب كرة القدم في منتخب فريق فرنسا، ولسقط على إثرها مضرجا بدمه فلا يخرج من مستشفى "المجيدية" بأقل من أربع "قطبات" في جبينه. 
 
كان لعزرا هذا خمسة أخوة وكل واحد منهم "مگطّع ديس أمّه"، و"يودي الشيطان للشط ويرجعه عطشان". كان الباعة و"الحماميل" (العتالون) والجيران يتقون شـرّهم. كانوا يطيرون اكبر طيارات أم الشناشيل، يرسلونها بالخيوط المعززة بالصمغ ومسحوق الزجاج لكي يمنعوا الآخرين عن اصطيادها لأن خيطها الزجاجي يقطع خيوط الطيارات التي تتحرش بها وليصطادوا الطيارات الكبيرة الأخرى وخاصة "أم الصناطير" التي كانت تصفر متهادية بهيبة وجلال في تحليقها دون أن يبالوا من يطيرها، مسلم أو يهودي أو مسيحي، و"الما يعجبه خلّي يطخ راسه بالحايط". فإذا اقتربت طيارتهم ذات الذيل الواحد القلابة بخيطها ذي المسحوق الزجاجي، قلبوها على خيط "أم الصناطير" أو "أم الشناشيل" وجذبوه، فينقطع الخيط وتسقط، فيدوّي عگدهم والعگود (المحلات) المجاورة بصيحات الاستحسان والتعجب من مهارة هؤلاء الأولاد "العركاويين" الذين يشترون الشر بفلوس، ويعدو الأطفال والشبان بصخب وجنون وراء الطيارة الساقطة ليأخذوها غنيمة باردة لهم. 
 
كان "عذرا" هذا وإخوته يجيبون على كل من ينادي على بضاعته من الباعة المتجولين بمسبة مقذعة ذات قافية طنانة متعارف عليها بين العتالين. كان يهبط ذات يوم درجات بيته إلى الشارع فسمع بائع اللبن وهو ينادي على بضاعته "اللبن" المحمولة بحقيبة الصفيح "بشكاسات" (اقداح) جميلة من الفرفوري الفاخر المصفوفة على رفوفها بداخل الحقيبة: "لبن! لبن!" فأجابه عزرا دون وعي منه وبصورة تلقائية: "كـ..ـا..ـت أمك إتْـگـَلـُبـَنْ!". ما أن انتهى عزرا من قافيته الرنانة حتى وجد فمه قريبا من أذن بائع اللبن الغريب عن المحلة وقد امتقع وجهه وعرت جسمه رعدة الغضب العنيف وأمسك بيد عزرا اليهودي: "ولك انت إلْ مَنْ دَتْسِبّه" (ويلك، من تسب)، صاح عزرا بأعلى صوته ليسمع أخوته ويأتون لتخليصه من هذه الورطة الغير متوقعة: "والله مو إلك! عبالي (ظننت) هذا عليوي أبو اللبن مالتنا وآني وياه ميانة (وأنا ومعه صديقين دون كلفة بيننا)". وعندما رأى بائع اللبن أخوة عزرا المحاطين به وعلى وجوههم تصميم خوض معركة لا يسلم منها ولا تسلم "شكسات" اللبن، "داس على نفسه" (تمالك نفسه) وقبل العذر مرغما: "ترى لا تسوّيها بعد!" وما أن أبتعد البائع حتى بدأت "جوقة العفاط" وراءه وهي تتنافس بأطول "زيگ"، بحيث لو سمعها شيخان "العربنچي" من محلة "الميدان" كان سيخجل من عفطاته التي ستبدو فاترة أمام هذه الجوقة المتحمسة. وشيخان العربنچي هذا هو الذي تبارى مع وزير الدفاع الجنرال جعفر العسكري وغلبه في مباراتهما في العفاط. فما بالك بعفطات "عـذرا" هذا وإخوته التي كادت تصل إلى باب الشرقي والى سينما غازي.

الصفحات