أنت هنا

قراءة كتاب بغداد حبيبتي (يهود العراق – ذكريات وشجون)

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بغداد حبيبتي (يهود العراق – ذكريات وشجون)

بغداد حبيبتي (يهود العراق – ذكريات وشجون)

كتاب "بغداد حبيبتي (يهود العراق – ذكريات وشجون)"؛ كتبت هذه الذكريات بصورة عفوية اثارتها دعوة الأستاذ الشاعر عبد القادر الجنابي لاجراء مقابلة معي يكتبها الدكتور سمير الحاج المحامي، ثم انهالت الذكريات مسلسلة كلما اثارت الاحداث حلقة منها، كتبتها للحقيقة والتار

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
دار النشر: مكتبة كل شيء
الصفحة رقم: 6
يهود العراق، ذكريات وشجون، الحلقة (2)
 
انتقالنا إلى محلة البتاويين
 
15/02/2007
 
أ.د. شموئيل موريه
 
قرب بيتنا في البتاويين عام 2009 الذي يقع بعد بيتين من وقوف الأديب والصحفي مازن لطيف، تصوير د. أمل پورتر
 
استبشرنا بانتقالنا عام 1936 إلى دارنا الجديدة التي بناها والدي من مهر أمي بعد أن باع حصتها في بيت جدي بسبب شق شارع الملك غازي الجديد. انتقلنا إلى دارنا الجديدة التي خططها الوالد وأشرف على بنائها بنفسه أمام بستان مامو في محلة البتاويين، وسمي شارعنا فيما بعد بشارع الرافدين وكانت أختي أسبرونس كلما دخلت الدار تذكر رقمها لنستطيع تذكر العنوان للعودة إليه بمساعدة "أولاد الحلال" إذا تاه أحدنا في محلتنا الجديدة وتقول باعتداد لتمكنها من القراءة: "رقم الدار، بستان مامو، 6 د / 13 / 1"، ثم تقرأ ما كتب على تاج الباب: "سـنة 1936"، وكانت دارنا من أوائل الدور التي بنيت في بستان مامو بالبتاويين، تحتوي على 5 غرف كبيرة وغرفتين صغيرتين فوق المرافق وغرفة الكيل (المخزن) سكن في إحداهما أخي جاكوب وفي الثانية جدتي بعد أن تأرملت، وتتوسط الدار حديقة داخلية كبيرة. 
 
وفي أيام العزّ هذه كان أبو علوان بائع الحليب الذي كان يسكن في كوخه الطيني أمام بيتنا ويعمل أيضا "بستانجيا" عندنا، يأتي ببقراته إلى دورنا ليحلب البقرة أمامنا، فقد كان الباعة يحملون بضاعتهم إلينا، إلى أن شـيدت أمانة العاصمة سوقها الحديث الذي بني أمامه كنيس "صلاة مئير طويق" فأصبحنا نذهب إلى السوق. وكانت زوجته أم علوان تساعد والدتي في بعض أمور المطبخ والتي كانت والدتي "المدامة" مدرسة اللغة الفرنسية سابقا و"التندعي بيها" (فخورة معجبة بنفسها) "تستنكف" العمل في المطبخ وحتى الدخول إليه. وكانت باهيزة أم محمد زوجة أبو علوان الثانية خبّازة العائلة. وكانت الوالدة تأخذني إلى تنور باهيزة قرب كوخ أبو علوان وزريبة بقرتيه لنشتري الخبز. وعندما كانت باهيزة ترانا مقبلين من بعيد كان وجهها المستدير "كالقمر ابو ارباطعش" يضيء بابتسامة رائعة. كانت صديقة حميمة لوالدتي أكثر من أم علوان، وكان الوالدة ترشدهما في تربية الأولاد ومعالجة أمراض الأطفال وتزودهما بما يزيد من الملابس والطعام عن الحاجة، وترسل لهما في الأعياد الحلوى والبخشيش. فإذا رأتنا صاحت باهيزة: "صلوات على النبي صلوات! سامي بيك وأمه المدامة جايين خطّار عدنا!" ثم تردف قائلة: "صلوات على هل عيون السود، صلوات! والله لأخبزلك حنونة (قرص صغير يخبز للأطفال خاصة) تلوگ الحلگك". وتأخذني بين ذراعيها لأرى كيف "تستوى الحنونة" ورائحة الخبز الناضج تعبق من ثيابها فأشعر بالحب والعطف يغمرانني وأنا بين ذراعيها، فأهنأ من حرارتين، حرارة التنور (الفرن) وحرارة كلمات الترحاب بنا وما تبديه من حب وحنان نحوي وأنا بين ذراعيها وهي تقبل وجنتيّ. ثم تناولني الحنونة اللاذعة بحرارتها ورائحتها العطرة وهي تقول بحب وعطف: هاي الحنونه لعيون سامي"، فأشعر بأني طفل مدلل لوالدتين تحبانني وتعطفان عليّ. 
 
وكانت هناك امرأة أخرى معجبة "بالعيون السود"، جارتنا راشيل ام حسقيل مدرسة أختي كلادس، فما أن تراني ألعب خارج الدار حتى تطلب من كلادس: "ابدالك لزمينو قداغيد أبوسو" (فداك، امسكيه لأني أريد تقبيله). لا أدري لماذا كنت أحب قبلات باهيزة الرقيقة برائحة الخبز الحار في ثيابها السوداء الصوفية وغطاء الرأس الأسود المعقود على رأسها، ولماذا يصيبني القرف من عطر "القلونيا" الذي كان يفوح من الست راشيل بثيابها الأوروبية. هل كان بسبب اعتدادها بنفسها كمعلمة تحصل على كل شيء بالأوامر، كما كان يفعل والدي؟ هل بسبب قبلتها الرطبة المغتصبة الجسورة تأخذها غصبا بدون "حنّـونة" ودون ترحاب يفيض من القلب. كانت تناديني "سامي تال (تعال) دبوسك!" فأرفض فتطلب من أختي كلادس "أبدالك صيدينو دبوسو"، وتنصاع أختي كلادس لأوامر معلمتها، وتمطرني الست راشيل بالقبلات الرطبة، فأفلت من يديها، حتى ضجرتُ وصحتُ بها ذات يوم غاضبا وأنا امسح مكان القبلة: "ولك إنتِ متستحين تتحاغشين بالغجيل؟" (ويلك ألا تخجلين من التحرش بالرجال؟)، ضحكت الست راشيل ضحكة عالية، "هذا اشلون ولد وكيح (جسور)، ابن أربع سنين وشيّف نفسو غجال (رجل) !". ثم تروى لزوجها وللأصدقاء ما قلته لها وهم "يغوصون" من الضحك وتصبح هذه النكتة مدار حديث الرجال والنساء في حَـيّـنا لمدة أسابيع. ومنذ ذلك الحين صار كل من يراها من المعارف، يقول لها ضاحكا: "ويلك! ألا تخجلين من التحرش بالرجال؟"، وهكذا تأدبت وتابت الست راشيل من تقبيل "أبو عيون السود"، بعد أن كانت تظن أن لها الحق في القيام بكل ما ترغب فيه عن طريق الأوامر وبدون مقابل، لا لشيء سوى لأنها معلمة. عندما سمعت عمتي مريم وقد جاءت لزيارتنا من العمارة، ما قال "أبو عيون السود" للست راشيل، قالت: "إي، عيونو السامي حلوة، عندو عيون مال عِـغْبِـي (الإعرابي / البدوي)". وعندما سمع أخي البكر ما قالته العمة، صاح: "أي والله! لَكَنْ (إذن) من اليوم انسميك أبو عيون العِغْبِـي"، وقال لأصدقائه فرحا: "من اليوم وغادي انسمينو السامي أبو عيون العِغـْبِـي!" ومنذ هذه الحادثة بدأ الشقاق بيني وبين أخي البكر، فقد أفسد علي دائما فرحة ترحاب الفتيات والنساء بالعيون السود. وبقي يعدد "أصيات" (جمع صيت) (ألقاب) "الشرف" التي منحها لي حتى بعد أن سافرنا إلى لندن للدراسة لنيل لقب الدكتوراه من جامعة لندن. ثم أدركت فيما بعد بأن هذه عادة عراقية يتمتع بها الكبار بإغاظة الصغار وتحقيرهم لكي يشعروا بسطوتهم وجبروتهم على من هو أصغر منهم. واليوم يطبق العراقيون هذه العادة على الأقليات الأخرى، يطبقها السنة على الشيعة وبالعكس والعرب على الأكراد للغض من مكانتهم والتفتيش عن المثالب والعيوب في الآخرين ويزرعون الشقاق الذي ورثوه من سياسة الغزاة: "فـَرّقْ تَسُـدْ".

الصفحات