أنت هنا

قراءة كتاب لخضر

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
لخضر

لخضر

رواية "لخضر" للروائية الجزائرية ياسمينة صالح؛ صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت ، وهي الرواية التي وصفها الناقد الأردني "سميح الخطيب" بالمتميزة والمعقدة في آن واحد، حيث قال "الخطيب" في مقالة نشرتها صحيفة الغد الأردنية أن رواية "لخضر" بأبعادها ا

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 5
(3)
 
كيف يمكن لحكاية أن تبدأ أو تنتهي بصورة؟
 
لا يدري· لكنه يعي أن الحكاية بدأت قبل أكثر من ثلاثين سنة خلت. أيام كان للأشياء مسميات مغايرة، أو ساذجة. كان لخضر وقتها في سن يقال أنه عنفوان كل الأعمار التي يمكن لشخص ما أن يعيشها، لم يشعر قط أنه يحمل عمراً يستحق أن يحتفي به داخل ما كان يحيطه من فراغ مهول ولا جدوى ظلت تطارده طويلا، ربما لأنه في تلك السن اكتشف أنه آيل إلى بؤس فتح له أبواب مواربة كانت تصنع في يومياته ثقوباً لا حدود لها ولا مهرب من التسلسل فيها إلى مزيد من الكبت والجوع! في تلك السن، كان الشباب يعتقدون أنهم في ذروة الحرية· يـَطلبون ويُطالبون. يثورون ويحتجون معتقدين أنهم سيغيرون وجه العالم· كان بعضهم يمارس السياسة ويرى فيها مخرجاً كشخص يتسلى بجريدة لا يقرأها إلى النهاية، والبعض الآخر يكتفي بأنه يعيش شبابه فحسب· يحب ويـُحَب، يتسلى بالعشق· يتأبط ذراع فتاة يرى فيها طموحاً يعرف أنه لن يتحقق، ويتأمل في خجلها حلماً يموت بالتدريج كلما مشى خطوة نحو الحقيقة التي تقفز إلى عينيه قائلة له: الحب للأثرياء الذين يستطيعون فتح بيت وتحمل مصاريف زوجة وأطفال يولدون جياعاً بالفطرة! لم يكن لخضر من هؤلاء الذين يحلمون بشيء ملموس. كان يرى نفسه فاقداً للطموح، مثلما كان عاجزاً عن القول أنه سعيد بحياديته الضاربة بعيداً في الهباء!
 
نعم. لم يكن سعيداً، فلم يكن ثمة شاب في المدينة وفي مثل سنه يدّعي السعادة· كان الجميع يتفق على أن السعادة كذبة قومية جاهزة لشعار سخيف يكتب على شرف أولئك الذين يعرفون أنهم سعداء لأن التعاسة مرتبطة ببؤس الفقراء فقط· هذه هي سنة الحياة في نظرهم، منذ بداية الخليقة. منذ تحولت التعاسة إلى بطاقة وطنية يحملها الشعب عن فخر قديم كذب عليهم قائلا لهم أنهم ينتمون إلى بلد كبير تركه الشهداء خلفهم دون أن يلقوا نظرة أخيرة إلى الخلف، لرؤية ما سوف تؤول إليه الأوضاع من بعدهم جيلاً بعد جيل، بعد جيل. بعد جيل! ماذا لو ألقى الشهداء نظرة إلى الخلف؟ هل كانوا سيتركون البلاد ويمضوا· كل البؤساء كانوا فقراء، وكلهم يترحمون دون غيرهم على بطن الوطن الذي أنجب أولئك الشهداء الذين تركوا لهم وطنا ويحتفوا بأمجاد سرقها الأحياء واستولى عليها اللصوص ليصلوا إلى السعادة على أكتفاهم· هل يحق له أن يكون سعيداً بعدئذ؟ كان يعتقد من الأول أنه لم يكن يستحق السعادة لأنه لم يفلح في الدارسة· فشله فتح هوة سحيقة بينه وبين أبيه الذي اعتبره فاشلا بامتياز، مع أن والده لم يكن قادراً على مصاريف الكتب والدفاتر التي كان يعايره بفشله فيها·
 
لكم شعر باللا جدوى وقتها.. ثم ما معنى الجدوى أساسا؟ فهو لم يختر في حياته شيئا. لم يختر وضعه ولا العائلة التي عاش فيها وكبر· لم يختر أمه التي اكتشف مع الوقت أنه لم يعرفها تماما· فقد توفيت وهي تضع أخته الصغرى إلى الحياة. كان في العاشرة من عمره عندما ماتت أمه بعد أسبوع من الولادة العصيبة· ماتت بسبب نقص في الرعاية· كانت تحتاج إلى طبيب لم يستطع والده أن يأخذها إليه. كان يسمع أنينها ليلاً، ويرى في الصباح شحوبها وجفاف صدرها من الحليب· يومها، طلب من أبيه أن يفعل شيئاً، لكنه تفاجأ به ينهال عليه بالضرب صارخاً فيه:
 
ـ لا ينقصني إلا أن تملي علي واجباتي يا ابن الكلب· أمك تحتاج إلى الدواء والغذاء لتشفى، أين لي بالمال لأشتري لها كل ذلك؟ أين لي بالمال. ؟؟
 
أمه.
 
يتذكرها كما لو أنها ماتت البارحة· يتذكر جسمها النحيف وابتسامتها التي لم تكن تفارقها قط، ونشاطها في البيت حتى في حالة المرض. يتذكر وجهها الذي كان يعيده إلى البيت كل يوم، ويجبره على الإصغاء والطاعة لينجح ويحمل العبء عندما يكبر. فهو الابن البكر الذي ستعود إليه مسؤولية الأسرة كلها· كان يصدق في وجهها تلك الأكاذيب الصغيرة والجميلة عن الغد والنجاح والفرح، والمستقبل. أمه نقيضا مطلقا عن والده· لم يكن والده سيئا، بل كان حازما لأنه كادح، ولأنه بائس وفقير. لا وقت لديه ليفتح أحضانه المتعبة لأحد· كان يعود منهكاً وشاحباً· يرتمي على الفرشة الأرضية البالية وينام نوماً مليئا بأنين التعب اليومي الخالي من اليقين. تلك الصورة أشعرته أن عليه أن يكبر بسرعة ليحمل المسؤولية ويأخذ نصيبه من العبء· لكن موت أمه أشعره ألّا وقت للغد، وأن النجاح كذبة لا يمكن لمثله أن يجتهد لأجلها، لأنه لا يعرف ماذا سيصنع بها إن تحققت. !
 
يتذكر جيداً ذلك اليوم الذي رجع فيه من المدرسة في مساء ماطر وكئيب. عاد كما يعود كل يوم جائعا يرتعش من البرد· تفاجأ بجارتهم وهي تمسكه من ذراعه وتجره إلى بيتها· لاحظ اجتماع النسوة في بيتهم. سأل بصوت مليء بالدهشة:

الصفحات