أنت هنا

قراءة كتاب بين يهوه وأيوب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بين يهوه وأيوب

بين يهوه وأيوب

يحتل كتاب "بين يهوه وأيوب" مكانة نادرة بين أعمال يونغ، فهو أكثر ما كتب يونغ عاطفية وجدلية في آنٍ معاً. ودونما ادعاءٍ بتصريحاتٍ علمية متزمتة، هو كتاب يتضمن التأملات الأكثر عمقاً، والناجمة عن شعورٍ مكثفٍ بالالتزام الداخلي.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 4
القراء المحترمين
 
تطلّب مني هذا الكتاب، بمحتواه غير المعتاد، التمهيد له بمقدمة قصيرة، أدعوك قارئي العزيز لعدم إهمالها، لأنني سأتناول فيما يلي أموراً عظيمة الشأن، ذات صلة مباشرة بالمعتقد الديني. وبمعزل عن ماهيّة الشخص الذي يتناول مسائل الدين، فلا مفرّ أمامه من المخاطرة بمهاجمته من قبل فريقين يتصارعان بشدة حول هذه الموضوعات.
 
يعود هذا الصراع إلى الافتراض الغريب بأن الأشياء لا تصبح حقيقية إلاّ عندما تطرح ذواتها على أنها حقيقة فيزيائية. وهكذا فإن بعض الأشخاص مقتنعين بحقيقة فيزيائية تقول بأن المسيح هو ابن السيدة العذراء، بينما ينكر آخرون هذه الاستحالة الفيزيائية للولادة من عذراء. من الجلي أن ليس هناك حل منطقي لهذا الخلاف، ومن الخير عدم الخوض في جدالات بيزنطية كهذه.
 
كلا الفريقين على صواب، وكلاهما على خطأ، ومع ذلك فبإمكانهما الوصول بكل سهولة إلى اتفاق، لو أنهما يطرحان كلمة "فيزيائي" جانباً، فالمعيار "الفيزيائي" ليس هو المعيار الوحيد للحقيقة، فهنالك أيضاً من الحقائق الفيزيائية ما لا يمكن تفسيره أو إثباته أو نقضه فيزيائياً. فمثلاً، لو ساد اعتقاد بأن نهر الراين يجري بشكل معاكس من مصبّه إلى منبعه، لكان أصبح هذا الاعتقاد حقيقة بحد ذاته، وإن كان لا يُصدَّق بمعناه الفيزيائي. إن اعتقادات كهذه هي حقائق أو وقائع لا يمكن نقضها، ولا تحتاج إلى برهان.
 
الإبانات الدينية هي أيضاً من هذا النمط، فهي تشير دون استثناء إلى أشياء لا يمكن التأسيس لها كحقائق فيزيائية. ولو لم تقدر على فعل ذلك، لصارت ضمن نطاق العلوم الطبيعية. وإن نحن حاولنا ردها إلى أصول فيزيائية، فسوف تفقد معناها بالمطلق، وسيرفضها العلم كونها غير مثبتة بالتجربة. وستكون مجرد معجزات، معرّضة بصورة كبيرة للتشكيك بها، فضلاً عن عجزها عن إثبات حقيقة الروح أو المعنى الذي تنطوي عليه، فالمعنى هو أمر تكشّف بذاته، وتمت تجربته بما فيه من خصائص.
 
إن روح المسيح ومعناه ماثلان أمامنا، حتى دون عون المعجزات. فالمعجزات تروق فقط لفهم أولئك الذين ليس بإمكانهم القبض على المعنى، فهي مجرد بدائل لعدم فهم حقيقة الروح. وهذا لا ينفي القول بأن الحضور الحي للروح لا يترافق أحياناً مع وقائع فيزيائية مذهلة. أرغب فقط بالتوكيد على أنه لا يمكن استبدال هذه الوقائع، كما لا يمكن لها أن تمدنا بفهم لماهية المعنى، وهي الأمر الأساسي الوحيد.
 
يبرهن التعارض بين الإبانات الدينية والظواهر الفيزيائية المرئية، على أن الروح، وخلافاً للمفهوم الفيزيائي، هي عنصر مستقل بذاته، وعلى أن التجربة السيكولوجية مستقلة إلى حد ما عن البيانات الفيزيائية. فالنفس عامل مستقل بحد ذاته، والإبانات الدينية اعترافات سيكولوجية، وهي كملجأ أخير، مبنية على اللاوعي، أي على الماورائيات والمنهجيات. هذه المنهجيات لا يطالها الإدراك، لكنها توضّح وجودها من خلال الاعترافات بالنفس. وتتم فلترة الإبانات الناتجة من خلال وسيط هو الوعي الإنساني، وهذا ما يعني أنها تُعطى أشكالاً مرئية، والتي تكون بدورها عرضة إلى تأثيرات متنوعة من الداخل ومن الخارج. وهذا ما يفسّر تحوّلنا إلى عالم من صور تشير إلى شيء ما مقدس، حالما نتحدث عن المحتوى الديني. ونحن لا نعلم مدى وضوح أو غموض تلك الصور والاستعارات والمفهومات قياساً إلى موضوعها الماورائي. فمثلاً، إذا لفظنا كلمة "الله" فإننا نعبر عن صورة أو فكرة لفظية تعرّضت إلى الكثير من التغييرات عبر الأزمان. ومع ذلك فنحن غير قادرين على القول، وبدرجة ما من اليقين ـ ما لم يكن ذلك إيماناً ـ إن كانت هذه التغييرات قد أثرت على الصور والمفهومات فقط، أم أنها أصابت "القدسي" أيضاً. ومع ذلك بإمكاننا تصور الله على أنه طاقة أبدية حيوية متدفقة، يتغير شكلها إلى ما لانهاية، بذات السهولة التي تمكّننا من تصوّره جوهراً أبدياً ساكناً لا يتغير. إننا واثقون بأمر واحد فحسب: هو، أن عقلنا قادر على التلاعب بالصور والأفكار التي تعتمد على المخيلة البشرية وأحوالها المؤقتة والموضعية، والتي تغيرت، بناء على ذلك، مرات لا نهائية على مدى تاريخها الطويل.
 
وما من شك في أن هنالك أمراً ما وراء هذه الصور، يفوق اللاوعي، ويشتغل بتلك الطريقة التي لا تتفاوت فيها العبارات بشكل غير محدود، أو عشوائي، لكنها ترتبط جميعها بشكل واضح ببضعة مبادئ أساسية، أو نماذج بدْئية. هذه النماذج البدئية، مثل النفس أو المادة، لا يمكن معرفتها كما هي. وكل ما نستطيعه فعله حيالها هو صياغة نماذج عنها، نعلم أنها غير ملائمة، وهي حقيقة تؤكدها الإبانات الدينية مرة إثر مرة.

الصفحات