أنت هنا

قراءة كتاب بين يهوه وأيوب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بين يهوه وأيوب

بين يهوه وأيوب

يحتل كتاب "بين يهوه وأيوب" مكانة نادرة بين أعمال يونغ، فهو أكثر ما كتب يونغ عاطفية وجدلية في آنٍ معاً. ودونما ادعاءٍ بتصريحاتٍ علمية متزمتة، هو كتاب يتضمن التأملات الأكثر عمقاً، والناجمة عن شعورٍ مكثفٍ بالالتزام الداخلي.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 5
وإن كنتُ، تبعاً لذلك، أشغل نفسي بهذه الموضوعات المتيافيزيقية، فإنني أدرك تماماً أني أتحرك في عالم من الصور، وأن أياً من أفكاري لن تتمكن من لمس جوهر "المجهول": كما أنني مدركٌ تماماً لمحدودية قدراتنا الذهنية، ناهيك عن هزال وفقر اللغة، على تخيل معنى أبعد لملاحظاتي هذه، مما يعنيه إنسان بدائي عندما يتصور إلهه كأرنب أو أفعى.
 
لكن، على الرغم من أن عالم أفكارنا الدينية بأكمله يتألف من صور مجسمة غير قادرة على الثبات أمام النقد العقلاني، يجب علينا التذكّر باستمرار أن هذه الأفكار تستند إلى نماذج بدئية مقدسة، أي إنها مستندة على أساس عاطفي لا يمكن للعقل معاداته. نحن نتعامل مع وقائع سيكولوجية قد يغفل عنها العقل، لكنه لا يستطيع استبعادها. وبهذا المعنى، فإن ترتوليان(5) كان محقاً في استجابته لشهادة الروح حين قال:
 
"شهادات الروح هذه بسيطة بقدر ما هي حقيقية، واضحة بقدر ما هي بسيطة، شائعة بقدر ما هي واضحة، طبيعية بقدر ما هي شائعة، إلهية بقدر ما هي طبيعية. أعتقد أنها لا يمكن أن تبدو تافهة أو سخيفة لمن يتفكر بجلال الطبيعة التي تستمد منها الروح سلطتها. وما تسمح به للمعلّمة، سوف تعزوه إلى التلميذة. الطبيعة هي المعلّمة، والروح هي التلميذة. وما علّمته إحداهما، أو تعلّمته الأخرى، جاء من عند الله، وهو بالحقيقة المعلم حتى للمعلمة ذاتها. وكل فكرة تكوّنها الروح عن معلمها الأول، لك أن تطلق عليها حكماً ينبع من الروح التي بداخلك. فاشعر بذاك الذي جعلك تشعر، وتفكّر بنبيّك في الشدائد، وبشيرك في النعم، وناظركَ عندما تلمّ بك الملمات. ويا للغرابة إذا ما عرفتْ كيف تلعب دور العرافة لدى البشر، وهذا ما منحها الله إياه. ومن الغرابة أيضاً أن تعرفه على أنه مانحها!"
 
سأتقدم هنا خطوة إلى الأمام، وأقول إن الإبانات التي اشتملت عليها الأسفار المقدسة، هي أيضاً ما نطقت به الروح، وذلك على الرغم مما ينطوي عليه هذا القول من المخاطرة بأن يشتبه بإخضاع الدين لعلم النفس. يمكن لتعابير العقل الواعي بسهولة أن تكون أفخاخاً أو أوهاماً أو أكاذيب، أو آراء اعتباطية، ولكن الأمر يختلف تماماً عندما يتعلق بتعابير الروح، فهي تعبُر دوماً فوق رؤوسنا لأنها تشير إلى حقائق تعلو فوق الوعي. إن هذه الكيانات هي نماذج بدئية في اللاوعي الجمعي، وتحفّز مركّبات من الأفكار على شكل أفكار أسطورية. والأفكار التي من هذا النوع لا نخترعها أبداً، بل هي تدخل إلى ميدان الإدراك الباطني على أنها منتجات مكتملة، كما يحدث في الأحلام، مثلاً. وهي ظواهر تلقائية غير خاضعة لإرادتنا؛ ونحن بذلك نمتلك الحق بأن ننسب إليها بعض الاستقلالية، فلا نعتبرها مجرد أشياء، بل هي ذوات أيضاً، ولها قوانينها الخاصة بها. ومن منطلق الوعي، فبمقدورنا، بالطبع، أن نوصّفها كـ "موضوعات"، بل بإمكاننا تفسيرها إلى الدرجة ذاتها التي نوصّف أو نشرح بها عن البشر. لكن عندئذٍ، يجب أن نتجاهل استقلاليتها. وإذا ما تم ذلك، فسنضطر للتعامل معها على أنها ذوات. وبعبارة أخرى، سنضطر إلى التسليم بأن لها تلقائية وقصدية، أو نوعاً من الوعي والإرادة الحرة، فنراقب سلوكها ونأخذ تعابيرها بعين الاعتبار. هذا الموقف المزدوج الذي نحن مضطرون إلى تبنيه حيال كل كائن مستقل نسبياً، لابد أن تكون له نتيجة مزدوجة أيضاً: فهو، من جهة، يُعلمنا بما نفعله بالموضوع، ومن جهة أخرى يُعلمنا بما قد يفعله هو بنا. ومن الواضح أن هذه الازدواجية المحتومة تخلق قدراً من الارتباك في عقول قرّائي، خصوصاً أننا سنتناول فيما يلي نماذج بدئية للألوهة.
 
إذا شعر أي من قرّائي بالغواية لإضافة "استثناءً" اعتذارياً إلى صور الإله بحسب فهمنا لها، فهو بذلك سوف يرتكب خطأ بالتجربة التي تبرهن بما لا يقبل الشك ألوهية هذه الصور. ليست الفعالية الهائلة أو (المانا) لهذه الصور هي فقط ما تمنحنا إياه من إحساس بإشارتها إلى "النفس العليا"، بل هي تجعلنا مقتنعين بأنها تعبّر عنه حقاً، وتبعاً لذلك نسلّم بأنها حقيقة. وهذا ما يجعل الحديث صعباً على نحو غير اعتيادي، إن لم يجعله مستحيلاً، فمن المتعذر علينا الاستدلال على حقيقة الله بعيداً عن هذه الصور التي أُنتجت بصورة عفوية، أو قدستها التقاليد. وهي صور لم يستطع عقل الإنسان الساذج أن يفصل صيغتها وآثارها النفسية، عن أساسها الميتافيزيقي المجهول. فهو، في التو، يساوي ما بين الصورة الفعّالة، والمجهول الإلهي الذي تشير إليه. ويبدو المبرر الظاهر لهذا الإجراء بيّناً بحد ذاته، ولا يُعتبر إشكالياً طالما أن الإبانات الدينية لم تُطرح للنقاش بشكل جاد. لكن إذا ما حانت الفرصة للنقد، فلا بد حينها من أن نتذكر أن الصورة والإبانة هما إجراءان نفسيان يختلفان عن موضوعهما الإلهي. فهما تختلفان عنه، ولا تزيدان عن كونهما إشاراتٍ إليه، أما في مجال السياقات النفسية فإن النقد والنقاش ليسا مشروعين فحسب، بل لا مفر منهما.
 
سوف أحاول فيما يلي أن أقدم فقط بحثاً، كما لو أنه "وصولٌ إلى تفاهم" فيما يرتبط بأفكار وتقاليد دينية بعينها. وبما أنني سوف أعالج عوامل إلهية، فإن كلاً من مشاعري وأفكاري قد واجهت التحديات. ولذلك لم أتمكن من الكتابة بطريقة موضوعية باردة، بل توجب علي إفساح المجال أمام ذاتي العاطفية لتتكلم إن كنت أريد أن أصف ما أشعر به، حين أقرأ بعضاً من أسفار الكتاب المقدس، أو حين أتذكر الانطباعات التي تلقيتها عن عقيدتنا بالإيمان. شخصياً، أنا لا أكتب كما يفعل لاهوتي عن الكتاب المقدس (فأنا لستُ كذلك)، بل أكتب بصفتي طبيباً وعلمانياً حصل على فرصته بالرؤية العميقة في الحياة السيكولوجية لعدد كبير من الناس. وما أعبر عنه هو، قبل كل شيء، وجهة نظر خاصة بي، رغم معرفتي أيضاً بأني أتكلم باسم كثيرين ممن تعرضوا لتجارب مشابهة.

الصفحات