أنت هنا

قراءة كتاب بين يهوه وأيوب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بين يهوه وأيوب

بين يهوه وأيوب

يحتل كتاب "بين يهوه وأيوب" مكانة نادرة بين أعمال يونغ، فهو أكثر ما كتب يونغ عاطفية وجدلية في آنٍ معاً. ودونما ادعاءٍ بتصريحاتٍ علمية متزمتة، هو كتاب يتضمن التأملات الأكثر عمقاً، والناجمة عن شعورٍ مكثفٍ بالالتزام الداخلي.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9
تُظهر هذه الكلمات، وبكل جلاء، أن أيوب، وعلى الرغم من شكوكه فيما يتعلق بوجوب تبرير حضور الإنسان أمام الإله، يواجه صعوبة في الاقتناع بإمكانية الحضور أمام الإله على أساسٍ آخر غير العدل والأخلاق. إذ أنه، وعلى الرغم من كل شي، ليس قادراً على التخلي عن إيمانه بالعدالة الإلهية. كما ليس من السهل عليه قبول إدراك إمكانية خرق التعسف الإلهي للعدالة. لكن، ومن ناحية أخرى، كان عليه التسليم بأن ما من أحد يظلمه أو يقسو عليه سوى يهوه نفسه. وليس بإمكانه إنكار أنه يواجه إلهاً لا يكترث بأي مبدأ أخلاقي، ولا يعترف بالالتزامات الأخلاقية.
 
ولعلّ هذا كان أعظم ما في أيوب، فهو، وعلى الرغم من كافة الصعوبات التي يمر بها، لم يساوره ريب في وحدة الله. إنه يرى، وبوضوحٍ تام، أن لله تناقضاته، وهي تناقضات مطلقة، إلى الحد الذي يجعل أيوب موقناً أنه سيعينه ويدافع عنه أمام يهوه. وبنفس المقدار من اليقين بالشر الموجود لدى يهوه، فإن أيوب أيضاً موقن بوجود الخير. فنحن لا نتوقع أن نجد العون لدى كائن بشري أوقع بنا الأذى، لكن يهوه ليس بكائنٍ بشري، إنه المدّعي والمعين في آن معاً، وكل واحدة من هاتين الصفتين هي حقيقية بمقدار الصفة الأخرى. إن يهوه ليس عبارة عن انقسام، بل هو تناقض فحسب، إنه "كليّة" من التناقضات الداخلية، وهو الشرط الذي لا غنى عنه لديناميّته الهائلة، ولمعرفته وقدرته الكلّيتين. ونظراً لإدراك أيوب لهذه الحقيقة، فإنه يبقى مصرّاً على أن يدافع عن أساليبه أمامه، أي أن يوضح له وجهة نظره. لأن يهوه، وبصرف النظر عن سخطه وغضبه، هو عَوْنٌ للإنسان لمواجهة نفسه، إذا ما تقدم منه الإنسان شاكياً.
 
ولو كانت هذه هي المرة الأولى التي نسمع فيها عن الحياد الأخلاقي الذي يتصف به يهوه، لازددنا تعجباً من مدى معرفة أيوب بالله. لكننا نعرف منذ الأزل أن يهوه عرضة للنزوات ونوبات الغضب، فقد برهن سابقاً على أنه مدافعٌ غيورٌ عن الأخلاق عموماً، وحساسيته عالية فيما يتعلق بمفهوم العدل خصوصاً. ومن هنا كان يتلقى الثناء بصفته عادلاً، الأمر الذي كان يوليه أهمية خاصة. وبفضل هذه المعطيات، أو الخصوصيات، تميّزت شخصيته عن شخصيات الملوك القدامى. إن غيرته، وطبيعته النزقة، وارتيابه بالقلوب غير المؤمنة، واستكشاف أفكارهم الدفينة، كل هذا تراكم ليبني علاقة بينه وبين الإنسان الذي لم يتمكن من مقاومة إحساسه أن يهوه يستدعيه. لقد كان هذا هو الفارق الأساسي بين يهوه والإله "زيوس" المتحكم الذي، وفي حالة من الخير والانفصال، سمح لنظام الكون أن يجري على عادته ويُنزل عقابه بالمفسدين فقط. إن زيوس لم يقدم المواعظ، وإنما حكم بطريقة فطرية بحتة. وهو لم يطلب من الإنسان أكثر من القرابين المتوجبة له، كما أنه لم يرغب بإقامة أي نوع من العلاقات مع البشر إذ لم يكن لديه خطة مسبقة بهذا الشأن. ومن المؤكد أن الإله زيوس كان رمزاً لا شخصية. بينما، من الجهة الأخرى، كان يهوه مهتماً بالإنسان، وكان البشر يحتلون المرتبة الأولى لديه. كان بحاجة إليهم بطريقة ملحّة وشخصية، تماماً كما كانوا هم بحاجة إليه. وزيوس أيضاً كان يُنزل عليهم الصواعق، لكنه كان يفعل ذلك فقط على البشر المتمردين الميؤوس منهم، أما فيما يتعلق ببقية الجنس البشري، فما كان لديه اعتراضات تُذكر. لكنه فيما بعد، لم يُبدِ اهتماماً كبيراً بهم. في حين كان يهوه يثور ثورة جامحة على البشر بصفتهم الجمعية، أو الفردية، إذا لم يسلكوا سلوكاً يرضى عنه. طبعاً لم يكن يهوه يأخذ بعين الاعتبار أن يقوم، بصفته كلي القدرة، بخلق نسخة محسّنة من هذه المخلوقات الأرضية السيئة.
 
وبالنظر إلى ارتباطه الشخصي الوثيق بشعبه المختار، لم يكن ثمة بدّ من أن يعقد معهم ميثاقاً منتظماً، وأن يمتد هذا الميثاق أيضاً ليشمل أفراداً معينين مثل داوود، الذي قال له يهوه، كما نعلم ذلك من المزمور التاسع والثمانين:
 
"إلى الدهر أحفظ له رحمتي.
 
وعهدي يثبّت له.
 
لا أنقض عهدي،
 
ولا أغيّر ما خرج من شفتيّ
 
مرة حلفت بقدسي
 
إني لا أكذب لداود:"(29)
 
ومع ذلك فقد حنثَ باليمين، وهو الذي لطالما حرص بغيرةٍ على تطبيق القوانين والوفاء بالعهود. في حين أحسّ الإنسان الحديث، وبحساسية وعيه العالية، بأن هاويةً سوداء قد فغرت فاهها أمامه، ومادت الأرض تحت قدميه. فأقل ما يتوقعه هو أن يكون إلهه أسمى من الإنسان الفاني، بمعنى أن يتفوق عليه بكينونته، ويكون أسمى وأنبل منه. لا أن يتفوق عليه بأخلاقه المرنة، أو لا يمكنه الاتكال عليه أو إثبات قوله حتى أمام هيئة محلفين.
 
وبالطبع، لا يمكننا محاسبة إلهٍ قديم بمقتضيات الواجبات الأخلاقية المعاصرة، إذ كانت الأشياء مختلفة بالنسبة لأقوام العصور القديمة. لقد كانت آلهتهم القديمة تمتلك كافة المواصفات: ففي تلك الآلهة كانت تتواءم الفضائل مع الرذائل، وتبعاً لذلك كان يمكن معاقبتها وتقييدها وخداعها واستعداء بعضها على بعض دونما خجل، أو على الأقل ليس لمدة طويلة. لقد اعتاد الإنسان في تلك الأزمان على التناقضات الإلهية، بل إنه لم يكن يقلق عندما تحدث تلك التناقضات. أما بالنسبة ليهوه فقد كان الأمر مختلفاً، إذ لعبت الرابطة الشخصية والأخلاقية منذ البداية دوراً كبيراً في العلاقة الدينية. وفي هذه الأحوال، لم يُحدث نقض العهد أذىً شخصياً وحسب، وإنما أخلاقياً أيضاً. ويمكن لنا معرفة ذلك في إجابة داوود ليهوه:

الصفحات