أنت هنا

قراءة كتاب يسمعون حسيسها

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
يسمعون حسيسها

يسمعون حسيسها

رواية "يسمعون حسيسها" للشاعر والروائي أيمن العتوم، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان، تتناول قصّة طبيب أمضى سبعة عشر عاماً في سجن تدمر في سوريّة للفترة من 1980 حتى 1997.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 8
وبدأ نتف اللّحية، كان ينتف بأظافره الطّويلة عشر شعرات، ثمّ يُتبِعها بلطمةٍ على الوجه، ظلّ ما يقرب من ساعتين وهو ينتف لحيتي حتّى شوّه وجهي بالكامل، ونزّ بعض الدّم من بعض منابت الشّعر، وظلّت بعض الشّعرات ناتئة في المنظر المُذلّ، فأمر عساكره بالقدّاحة، وصاح وهو يُزبِد:
 
- والله لحرقلك وِجَّكْ يا ابن الشّـ····
 
وقرّب القدّاحة المشتعلة من أسفل ذقني، وتراقص ضوؤُها على صفحة وجهه البغيض، فبدا شيطانًا من الشّياطين الخارجة من الجحيم··· حرّكت رأسي يمينًا وشمالاً لأتّقي اللّهب، فسارع عسكريّان بتثبيت وجهي، ومارس الشّاذّ هوايته الكاملة في حرق وجهي وما تبقّى فيه من شعرات··· ورحتُ أصرخُ وهو يبتسم، ويفترّ فمه عن أنيابٍ صفراء، ويبدو أنّ صراخي كان يُصيبه بالنّشوة، الّتي لم تبلغ ذروتها إلاّ بعد أن فاحت رائحة الشّواط جرّاء حرق الشّعرات، ومع كلّ صرخة، كان يهمهم بضحكة ليقطعها انتظارًا لصرخةٍ أخرى مماثلةٍ منّي···!!
 
رمى القدّاحة في زاوية الغرفة، وزعق في وجه العساكر الأربعة الموجودين فيها، وخرج، لتخلو منه الغرفة لساعتين· خلالهما لم يأتِ أحدٌ من الجلاّدين بحركة، كان حريق اللّحية قد فاقم من حدّة عطشي، صرتُ أحوّل العرق النّازل من جبهتي بلساني مُحاوِلاً إدخاله إلى فمي لعلّني أشربه··· غير أنّه كان مالحًا، فلا تزيدني ملوحته إلاّ توقًا كبيرًا إلى رَشْفةِ ماءٍ واحدةٍ باردة· كانت رشفة الماء في تلك اللّحظة تُعادل عمرًا بأكمله، كنتُ مستعدًّا للتّضحية بكلّ شيءٍ في سبيل الحصول عليها· دخل ثانية، تربّع على كرسيّه، وقال وهو يُرجع جذعه إلى الخلف، وينكش أسنانه، ويتجشّأ من طول أكلٍ وشُرب:
 
- ها··· فكرت وْلا··· قرّرت تِعترف وْلا···
 
- بدّي مَيْ··· عطشان···
 
- إزا بتعترف··· إلك مَيْ بوز··· ها··· شو رأيك؟!
 
- ماشي··· ماشي··· رح إِعْترف···
 
- جيبلو مَيْ من البرّاد··· خَلِّيَّا بُوزْ···
 
غاب أحد العساكر، ثمّ عاد، تناول المحقّق الكأس منه، وقرفص حتّى صار وجهه في وجهي، كانت الكأس (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشّارِبينَ)، سال الحَباب منها على أطرافها لشدّة برودتها، وترقرق الماء الصّافي في داخلها كأنّه من ماء الكوثر لا من ماء الدّنيا··· وارتجف جسدي للمنظر، وارتعشت روحي العطشى لِما ترى، وهَمَمْتُ أن أقول كلّ ما أعرف، وأعترف عن كلّ من أعرف··· كانت الكأس في تلك اللحظة تساوي كلّ هذا، وكان ألم انتظارها، والتّلوّع أمامها أصعب من كلّ الآلام السّابقة التّي واجهتُها··· أتكون نهايتي في رشفة الماء هذه؟!! أأصمد أمام براكين العذاب السّابقة، وأتهاوى أمام كأسٍ واحدةٍ تستقرّ بين أصابع هذا الجلاّد الانتهازيّ البغيض؟!
 
قرّبها أكثر من أنفي؛ شممتُ فيها رائحة الحياة، وصعدت من أطرافها سُحُب الرّيّ فلفحت وجهي، كان تمّوز في منتصفه، ولا شيء ينتصر على تمّوز غير الماء البارد على عطشٍ لائحٍ···!! أمّا لساني فَيَبِسَ حتّى كأنّه قطعة خشب، تيبّس في البداية طرفُه الأمامي فلم أعد أحسّ به، ثمّ انتقل الخدر واليباس إلى بقيّة أطرافه فصار قطعة ميّتةً في فمي تحتاج إلى قطرة ماءٍ واحدةٍ لتنتعش وتعود إلى الحياة من جديد!!
 
تركني صريع خيالاتي وهواجسي، وكرّر من جديد:
 
- اعتراف واحد، وماء بارد· شو رأيك؟!
 
طوّحتُ رأسي في الفراغ المُمكن عدّة مرّات فتراشق رذاذ العرق والدّم على وجهي، ونالَه نصيبٌ منه، فأحس أنّه رفضٌ من جهتي، مسح الرّذاذ عن وجهه، وتراجع إلى الخلف، ورمى الكأس على أحد الجدران فانكسرت وسال ماء الحياة منها على ذلك الجدار مهدورًا، وصاح في حنقٍ شديد:
 
- أنا بعرف كيف خَلّيك تِعْترف يا ابن القَحْـ···
 
صاح بالعساكر:
 
- هاتوا الخوازيق والعِصي··· والله لَتْموت اليوم بين إِيدَيّ···
 
تفرقع العساكر كأنّ نارًا لسعت جوانبهم، وغابوا من جوف الغرفة، وعادوا بعد قليل وفي أيديهم مجموعة من العصيّ والخوازيق، وضعوها على المكتب أمام المحقّق، ومنحني المحقّق فرصةً كاملة للتّعرّف على هذه الأدوات الجديدة من التّعذيب، قرّبها منّي وهو يعرضها عليّ واحِدةً واحِدةً··· وقال بلهجة التّحدّي:
 
- هلّقْ رح نبلّش···

الصفحات