أنت هنا

قراءة كتاب يسمعون حسيسها

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
يسمعون حسيسها

يسمعون حسيسها

رواية "يسمعون حسيسها" للشاعر والروائي أيمن العتوم، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان، تتناول قصّة طبيب أمضى سبعة عشر عاماً في سجن تدمر في سوريّة للفترة من 1980 حتى 1997.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 2
ولم تنفعني تأوّهاتي، وصرخات آلامي، بل سارع إلى كسر جذعٍ آخر، وراح يهوي به على وجهي، فتخلّصتُ بالهروب، ولولا نحول جسدي، وسرعة ركضي لما نجوت منه وهو يعدو ورائي ولا يتوقّف عن ملاحقتي!!
 
ومرّة ثالثة طُردت من المدرسة بسبب شِجارٍ بيني وبين أحد الأساتذة، الّذي أُحرِج أمام الطّلاّب من ردّي عليه، فبعث بي إلى المدير، فقرّر المدير حينئذٍ طردي لثلاثة أيّام، ولمّا سمع أبي بذلك، تناول سِكّينًا كبيرًا من المطبخ، وهُرعَ باتّجاهي وهو يلوّح بها، ويصيح:
 
- أنا باعتك عَ المَدرسة تا تنطرد مِنّا يا حَيَوان، والله لَإدْبحكْ مِتِلْ ما بْتِنْدبح الجاجة···
 
وعندما كانت المفاجأة تتغوّل عليّ وتكاد تُسقطني لِما هالني من منظر أبي، تسمّرتُ في البداية مكاني، وقفز الدّم إلى عينيّ، أمّا هو فتابع وهو يصيح على أمّي:
 
- هاتي الطُّشت يا حرمة، والله لَإدْبَحُو دَبِحْ···
 
ركضتُ باتّجاه الحقول وأنا أرتجف من الخوف، واختبأت خلف الأشجار حتّى يهدأ أبي··· وكنتُ أظلّ على خوفي هذا حتّى يهبط اللّيل، ولا تكون لي من شفيعٍ إلاّ أمّي الّتي كانت تُقبّل رِجلَيْ أبي لكي يسمح لي بالمبيت هذه المرّة، وتحلف له أغلظ الأيمان أنّه لن يعودَ لمثلها!!
 
هربتُ من أبي إلى المسجد، وكأنّما وجد أبي حرمةً في ملاحقتي إلى هناك، أو اطمأنّ إلى نقاء بعض الشّيوخ الّذين يدرّسون فيه، فكفّت العصا عن الهُويّ على رقبتي، والسّكين عن الارتفاع في وجهي، واستسلم أبي لقُدسيّة المكان!!
 
تنقّلتُ في البكالوريا بين المدرسة والمسجد، ظلّ الشّيخ (منير) يغرس الفضائل والقِيمَ في نفوسنا، حتّى نمت ثمرتُها مع الزّمن، وفتحتُ عينيَّ على أفكارٍ جديدةٍ لم تكن لولا الشّيخ (منير) لتحلّ فِيّ، وسارعت لقاءاتي عددًا من الشّباب في المسجد إلى بلورتها في حقل القلب المفتوح لكلّ شيء!!
 
وكان أبي يعود من عمله، فيبدأ بالصّراخ على أمّي سائلاً عنّي، وحينَ تقول له: في المسجد، يخور مثل ثورٍ ويسكتُ على مضض!!
 
في المدرسة كان زجاج النّوافذ لا يستقرّ في أماكنه أسبوعًا، اُبتلِيت المدرسة بشبابٍ مُخرّبين، يحطّمون الزّجاج، ويحفرون خشب الأبواب، ويقتلعون الألواح من أماكنها، ويكسرون (لمبات) الغرف· ومرّة استفحل الأمر، فاستغاث أستاذ الصّفّ بالمدير، فهُرِعَ المدير إلينا، ولمّا رأى الصّفّ على هذه الشّاكلة، راح يصرخ:
 
- يا كلاب··· إنتو قاعدين بْصِيْرِة···!! وْلا إنتا وْيّاه أبوك بْيِشتغل من الصّبح لَلْمسا مشان ربع ليرة تا يجيبلك دفتر···!! وْلا إنتا وْياه ليش بِتكسْروا··· وْلا لِبْغال ما بتساوي هيك··· هو العلم ما إلو قيمة عَنْدكُنْ···؟!
 
رفعتُ يومها يدي، مستأذنًا في الحديث، فقال لي المدير:
 
- هاتْ لَشوف···
 
فقلتُ مستهزِئًا:
 
- نِحْنا جيل الثّورة؛ مَهيك بِتْقولو···؟! نِحْنا مين ربّانا هَيْ التِّربايِة··؟! إلّي بساووا هَيْ الشّغلة؛ يعني بِكَسْروا وبِدَمْروا إنتو ربّيتوُّن على هيك شي· أمّا إلّي بربّينا تِرْباية صحيحة على حبّ الوطن، وحبّ الوالدَين، بيجي واحد منكن بيكتب فيه تقرير، بتروحوا بتحطّوه بْمَكان ما حدا غير الله بْيَعْرف فيه··· يا أستاذ إلّي كسّروا وعِمْلوا هَيْ العمايل مِنكن، شباب بلا أخلاق من فِلْم لَفِلْم، ومن سُكْر لسكر، ومن بِنْت لَبِنْت··· إنتو إلّي لازِم توقفوُّنْ عند حَدُّنْ···!!
 
كان المدير يستمع إليّ وهو يستشيط غضبًا، وعرف أنّني من جماعة الشّيخ (منير)، فقال لي متحدّيًا:
 
- الطّالب إلّي بْتحكي عنّو من فِلم لَفِلْم ومن سُكْر لَسُكْر ومِن بِنْت لَبِنْت، هادا طالب ثوريّ تقدّميّ، هادا بْيِسْعى لبناء المجتمع العربيّ الاشتراكيّ الموحّد، هادا طالب آثر المصلحة العامّة على مصلحتو الخاصّة· أمّا الطّالب إلّي كلّ وقتو للدّراسة والعلم، وِبْينجح بِالمَرتبة الأولى فهادا طالب أنانيّ، ضرب المصلحة العامّة (مصلحة بناء المجتمع العربيّ الاشتراكيّ الموحّد بعرض الحائط)، وعمل لَيْصير طبيبْ أو مهندسْ إيثارًا لَمصلحتو الشّخصيّة، لَهيكْ الطّالب الثّوريّ يستحقّ أن تُقدِّم الدّولة له كلّ إمكانيّاتها، أمّا الطّالب إلّي بْيُدْرس فهادا ما بْيِسْتاهِلْ أيّ مساعدة من الدّولة·
 
واستبدّ به الغضب أكثر، فصار يصيح بي:
 
- ولا إنتا شو جايبك لهون؟! واحد مِتلك متخلّف رجعي لازم يكون هُنيك بالجبّانة (ونظر من نافذة الصّف إلى المقبرة الّتي تبعد عن المدرسة قليلاً) هُنيك مكانك الطّبيعيّ؛ مقبور··· والله لَنْحِطّك قذيفة بْمَدفع، ونضربك على إسرائيل حتّى نِخلَص مِنّك···!!
 
كانت تربية المسجد تبعث في النّفس يقينًا، وطمأنينة؛ تحميني من أبي من جهة، وتُريني فساد نظريّاتٍ يتبنّاها واحدٌ مثل مديرنا في المدرسة··· مرّت أيّام البكالوريا، ويبدو أنّ المسدّس الّذي رفعه أبي في وجهي حثّني على أنْ أحصّل مجموعًا يؤهّلني لدراسة ما كان يتمنّاه لي··· وهكذا صرتُ طالبًا في كليّة الطّبّ بجامعة دمشق!!

الصفحات